حينما نقرأ لبعض الكتاب الذين يحاربون بأقلامهم كلَّ عمل خيري دعوي جميل، ويحاولون أن يسيؤوا ملمحِّين أحياناً ومصرّحين أحياناً أخرى للقائمين على كل عمل خيري دعوي جميل، ويتهمونهم بالتخلُّف وعدم المسايرة للعصر، أو بالتطرُّف ودعم الإرهاب، أقول: حينما نقرأ لأولئك الكتاب نشعر بالبعد السحيق بينهم وبين مجتمعهم المسلم وأمتهم المسلمة، وندرك مدى الهُوُّة الفكرية، والثقافية السحيقة التي وقعوا فيها، ونحسُّ بمدى الغزو الثقافي الذي استطاع أن يستولي على عقولهم وقلوبهم استيلاءً كاملاً، ويتخذ منها (قواعد) لإطلاق نيران السُّبة في الدين، والشَّهوات باسم التقدم والتمدُّن، وينتزع من نفوسهم نوازع الخوف من الله، والحرص على المجتمع والوطن، والحياء الذي يُعدُّ شعبةً من شعب الإيمان، والذي ما فقده إنسان - ذكراً كان أم أنثى - إلا جاء بالأعاجيب. نقرأ ما يكتب أولئك، فندعو لهم من الأعماق أن يعيدهم الله إلى الصواب، ويزيح عن قلوبهم وبصائرهم غشاوة الفكر المنحرف، والثقافة المعتمة، ونشعر بالإشفاق عليهم، وهم يضعون أنفسهم في خنادق الأعداد بقصد أو بغير قصد. إن بعض أولئك الكتاب الذين يبالغون في محاربة الخير وأهله، ويواصلون تعب نهارهم بسهر ليلهم في هذا الطريق الموحش ليذكروننا بمن أخبرنا الله عنهم من أهل الضلال في الأمم السابقة الذين كانوا يرون الحق باطلاً، والباطل حقاً، وكانوا يصفون أهل الصلاح والتقوى بما فيهم الأنبياء، بالضلال والسعي إلى الإفساد، فذلك فرعون الذي ظل به كفره وجحوده حتى أرداه في البحر غريقاً يقول لقومه وهو في قمة كفره وظلمه وفساده {مَا أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرَى وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشَادِ}، ويرى ما يدعو إليه موسى عليه السلام من الحق والخير والعدل والإيمان غير ذلك. إن الوهم الذي يغطي البصيرة هو الذي يدفع الإنسان إلى مثل هذه الانحرافات التي يعرفها الصغير قبل الكبير، وهو الوهم ذاته الذي جعل قوم لوط المنحرفين خلقياً عن الفطرة السليمة يطالبون بإخراج لوطٍ وأهله ومن آمن معه من قريتهم لأنهم أناس يتطهَّرون، كما ورد ذلك في قوله تعالى {فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَن قَالُوا أَخْرِجُوا آلَ لُوطٍ مِّن قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ}. فالنَّبذ والطَّرد والإخراج في ميزانهم واجبٌ في حق المؤمنين المتطهِّرين. إنه الوهم الذي يقلب الحقائق، فيجعل الدعوة إلى الله سبحانه وتعالى بالتي هي أحسن إجباراً للناس على ما لا يريدون، وتدخُّلاً في حريّاتهم الشخصية، ويجعل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر عملاً متخلِّفاً وأسلوباً رجعياً في عصر الحرية المطلقة، ويجعل جمعيات تحفيظ القرآن وغيرها من الجمعيات المنتشرة في عالمنا الإسلامي دلائل على التخلُّف وعدم مواكبة العصر، بل إن ذلك الوهم يجعل أي عمل يحمل صبغة إسلامية واضحة عملاً يحتاج إلى مواجهة توقفه عند حدِّه حتى لا يعكر على السائرين في (سبيل الرشاد الفرعوني) سيرهم على ما يشتهون. هنا - أيها الأحبة - تتجلَّى أهمية ذلك الدعاء المأثور (اللهم أرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه) لأن معنى هذا الدعاء أن يمنحنا الله البصيرة التي إذا عمَيتْ عميَ القلب والفكر، وغامت الرؤية فغدت لا تمكِّن صاحبها من رؤية الشيء على حقيقته، وهنا يصبح الإنسان متخبِّطاً في أقواله وأفعاله، يرى الباطل حقاً فيتبعه ويدعو إليه، ويرى الحق باطلاً فيصدُّ عنه، ويحارب أهله، لأن أقفال الأوهام قد أحكمت الإغلاق على أبواب بصيرته - نسأل الله السلامة -، ونسأله عزَّ وجلَّ ألا نكون ممن قال فيهم: (لَا يُؤْمِنُونَ بِهِ حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ) أو ممن قال فيهم: (أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا). إشارة: من راقب الرحمن أدرك في الحياة السُّؤْدَدَا