عرفتُ الشاعر محمد الثبيتي (1952م) -شفاه الله- أول ما عرفته أنا وأبناء جيلي، وهو نجم شعري، تتناقل الصفحات الثقافية في الصحف السعودية صورته منفرداً، أو بصحبة الشاعرين عبد الله الصيخان، ومحمد جبر الحربي، أو بصحبة شعراء أقدم جيلاً مثل محمد العلي وعلي الدميني وأحمد الصالح وسعد الحميدين وعبد الله الزيد. وذلك في منتصف الثمانينات الميلادية، حين كانت الحداثة في ذروة وهجها الذي قادته الصحف ومناشط أبرز الأندية الأدبية في تلك الفترة. وهي الفترة التي تفاعل فيها الفكر الأدبي لدى نخبة من النقاد مع أسئلة نظرية ومنهجية جديدة أكثر شغفاً بتوليد اللغة وجِدَّتها، وأكثر حفاوة بالغموض الذي تجد فيه عمقاً ينفتح بالدلالة ويؤكد وظيفة الشكل اللغوي. وكانت دلالة الحداثة، لدينا، في ذلك الزمن، تنصرف إلى الغموض في هذا الشعر الذي كان من وزن التفعيلة أو من قصيدة النثر. وكنا قد عرفنا هذين الشكلين -وهما لا يُدرسان في الجامعة في أيام دراستنا!- بوصفهما مدلولين لدلالة التجديد، الذي عرفناه مقابلاً للتقليد وللقديم، وعرفنا في ضوئه ما اعترى الشعر العربي في فترات تاريخه المتعاقبة من تغير وتطوُّر. وبالطبع لم نكن على موقف واحد تجاه هذا الشعر الغامض، وكان كثير منا يعلن -بأشكال مختلفة، أقلها التصريح- أنه لم يفهم وأنه لا يجد متعة في هذا الشعر، أما الآخرون فكانوا فريقين يجمعهما معاً إدعاء الفهم، فريق يرى في غموض هذا الشعر مسلكاً دالاً على تغير المفهوم الشعري نفسه الذي أصبح قفزة خارج التصورات والمفاهيم الواقعية والتقليدية، والآخر يراه -كما هي بعض وجهات التفسير للمجهول والغريب، أو طعون التهاجي الإيديولوجي- عملاً سرياً وتخريبياً!. ولم نكن نعلم أن محمد الثبيتي قد ابتدأ شاعراً عمودياً، بنكهة إحيائية حيناً، ورومانسية أحياناً أخرى، وهي الحجة التي تدمغ أولئك الذين يرون في الأشكال الشعرية الجديدة دلالة على ضعف شعرائها، وهروبهم من الأوزان التقليدية والقافية. وقد ضمّ أول دواوينه وهو «عاشقة الزمن الوردي» (1982م) قصائده العمودية تلك، وقدم له بمقدمة دالة على توقده بالحياة وتطلعه إلى الجديد. فهو يرى أن الشعر مجاهل وأنه مولَع باقتحامها وهز أغصانها اللدنة لتمنحه وهج الحب والحياة، وهذا مغزى دال على تصور شعري غير تقليدي، بل هو تصور يصل بين الشعر وبين المعرفة والوجود، ويؤكد المدلول الإنشائي والإبداعي في الشعر تأكيداً يتراءى به ومعه الشعر مطراً من الورد والفراشات والأصداف، وأشعة ملونة تورق بين الأصابع وتلد السحر والرحيق. ولم يكن هذا الديوان الأول للثبيتي عمودياً خالصاً، بل تضمن قصائد من شعر التفعيلة وأخرى تمزج بين العمودي والتفعيلة. ولهذا تضمنت مقدمته تلك، إشارة إلى الشعر الجديد طافحة بدلالة القصد إليه والتفضيل له، ونابضة بحس المواجهة لخطاب مضمر يتمثل الثبيتي ممانعته. فهو يقول بما يشبه رداً على قول لم يُذْكَر للعِلْم به: «وأنا في ذلك لم آت بجديد، فالشعر الحر أصبح واقعاً عملاقاً وعلامةً بارزةً في شعرنا العربي، بل إنه أصبح الينبوع الأعذب والتيار الأقوى على مواكبة واقعنا الحضاري وحياتنا المعاصرة». وقد نشعر بالدهشة هنا، لأننا نعلم -طبعاً- أن الثبيتي لم يكن أول من كتب القصيدة الجديدة، لكن هذه الدهشة ستزول إذا علمنا إحجام أكثر شعرائها في المملكة آنذاك، عن إصدار دواوينهم، وإرهاصات الهجمة عليها بأشكال مختلفة أهمها الكتب التي استهلها أحمد فرح عقيلان، بكتابه «جناية الشعر الحر» (1982م) ومقدمة الديوان مؤرخة بعام (1400ه-1980م). أما عنوان الديوان «عاشقة الزمن الوردي» فهو عنوان رومانسي، سواء بدلالة العشق التي تغدو متعلَّق ذات من خلال صيغتها في اسم الفاعل، أم بالدلالة على الأنثى من خلال إسناد العشق إليها وحمله عليها، فهي عاشقة. وفضاء الدلالة المتصل بالعشق والأنثى معبأ بالانفعال والأحلام والذاتية والهروب من الواقع وما إلى ذلك من التداعيات الوجدانية التي أدمنها الشعر الرومانسي وامتلأ بها. ويضيف العنوان إلى ذلك ما يضاعف الرومانسية فيه بوقوع فاعلية ال»عاشقة» على «الزمن الوردي» وهنا لا تتدفق الرومانسية من الزمن مجرداً عن صفته بل من الاقتران بها، فهو زمن وردي أي له صفة عاطفية تَهْجِس بمباهج الدفء والعطر، وترمز للحب والجمال. لكن تلك العاشقة للزمن الوردي، وهي عنوان إحدى قصائد الديوان مثلما هي عنوانه، تتجرد في النص من صفة المرأة، وتغدو مجازاً على القصيدة. وتتوالى هنا أفعالها، في وجهة خطاب إليها لا عنها، أي بضمير المخاطبة لا الغائبة، وهو خطاب يبني لها صفات فعَّالة، تُنتِج دلالتها على الضوء والحياة، وعلى نزفها ولهاثها في طرقات المدينة، مجدِّدةً للزمن شبابه وابتهاجه؛ لأنها تقضي على الأساطير والأغنيات الحزينة، وتمنح الوجود اليقظة والنماء والإحساس، فتورق الداليات، ويرتعش الموج، ويمتد الحب عابراً بصوت القصيدة كل المسافات، وكل الحدود، لتتعانق به الألحان، وترتوي قبلات السنابل، ويتدفق النبع الذي يستحيل إلى زمن للصحو ولحظات للتألق. وهي تستعجل الرحيل، وتجوب كل المرافئ، عاشقة للماء والنار، هذين الضدين في تجاوبات دلالتهما التي تعطف صفات القصيدة كلها عليهما، مترامية إلى المستحيل إلى اللانهاية! إن هذه القصيدة التي اتخذها الثبيتي عنواناً لديوانه الأول، تَخْلِف ما يُنشِئه عنوانها للوهلة الأولى من أفق توقع رومانسي بالمعنى الذي تقولبت فيه الرومانسية. فهي قصيدة تجاوز إلى التمثيل على دلالة القصيدة، وتجسد حلم الحالة الإبداعية، وهي في هذا الصدد تستلهم تقاليد الصلة بين العشق والإبداع، هذه الصلة القديمة الحديثة، منذ حكى ابن رشيق وغيره عن القدامى أن «الغزل سلم الشعراء» ومنذ رأينا التشبيب والوقوف على الأطلال إشارات تستحضر خيال الحبيبة بين يدي القصيدة، وإلى تشبيه أبي تمام الشهير للشعر في أفق علاقة نوعية بالأنثى، إلى التجليات الحديثة التي تصل شيلي وكيتس بمالاراميه ورامبو وأزرا باوند وإليوت في المسافة نفسها التي تجمع السياب ونازك الملائكة مع خليل حاوي وصلاح عبد الصبور. في مدار يعطف القصيدة على الحبيبة، ويقرن الشعر بالحب بعلاقة مشابهة على النحو الذي برر به صلاح عبد الصبور الحديث عن الحب في قوله: لأن الحب مثل الشعر... ميلاد بلا حسبان لأن الحب مثل الشعر ما باحت به الشفتان بغير أوان لأن الحب قهار كمثل الشعر يرفرف في فضاء الكون لا تعنو له جبهة وتعنو جبهة الإنسان أحدثكم بداية ما أحدثكم عن الحب. لكن قصيدة الثبيتي التي تخيِّل الشعر في علاقة الحب ومعها، وتتخذ للقصيدة دلالة الأنثى في فم الرجل، تجاوز ذلك إلى علاقات أخرى تتجاوب فيها القصيدة مع الضوء والوهج والنار وشرفات القمر، ومع الماء والندى ونُسغ الحياة. وهي علاقات تجمع الدلالة على الرؤية والكشف مع الدلالة على الحيوية والحس والنماء، وهذان جانبان إبداعيان في صفة القصيدة؛ فالقصيدة بلا كشف واستبصار ومجاوَزة عمياء وجامدة، وهي بلا حيوية نامية وذات شعور وحس ميتة ومتشيِّئة. لهذا رأينا الثبيتي في قصيدته المشار إليها أعلاه، يصف القصيدة بأنها «تستعجل الرحيل» و»تجوب المرافئ» وهذا استلهام لأفق آخر هو الأفق الذي وُلد فيه عند السياب -مثلاً- السندباد من حيث هو رمز إبداعي تحضر به دلالة الاقتران بين الإبداع والسفر في متاهات المجهول والبعيد والمختلف، وتتجسد به إرادة الاكتشاف والمعرفة والمغامرة. هذا الأفق الذي تتخلق فيه القصيدة عند الثبيتي هو الأفق المختلف عن الواقع والموازي له، فالواقع على قدر من الصفات المضادة للقصيدة، إنه «سماء الضباب» أو «وجه الضباب» على نحو ما تتبادله صيغ المجاز في غير قصيدة، وهو الليل أو الظلام والخريف والرمل... إلخ. وهذه إشارات عائقة للرؤية والكشف والاستبصار، وعائقة للنمو والتفتح والإزهار، أي عائقة للقصيدة التي أصبحت معادل المعرفة والشعور والرؤية في مدى من التجاوبات التي أنتجت لنا «كاهن الحي» و»عرَّاف الرمل» -كما سيأتي إن شاء الله- وهما صورتان من الصور التي ابتكرها خيال الثبيتي بعد ذلك لتأدية وظيفة العامل الذات في شعره من الوجهة التي تخلق هذه الذات بمعنى الرغبة في المعرفة والرغبة في التنبؤ وبقدر يساوي الرغبة في الحياة والتعلق بالمستقبل. لكن المهم في ديوان الثبيتي الأول هو بروز موقف شعري تجاه الشعر التقليدي والرومانسي، وأعني بوصف هذا الموقف بالمهم، ما ينشئه من بوصلة في وجهة الثبيتي الشعرية، التي أصبحت تستشعر موقف الحداثة والتجديد من خلال وعي بالتهافت التقليدي والرومانسي ومحدوديتهما، ولهذا بدا الشعر في هذه الوجهة قديماً وميتاً وخَلْف الواقع لا أمامه. وقصيدة الثبيتي «هوامش حذرة على أوراق الخليل» -مثلاً- مساءلة نقدية وحجاجية واضحة، إذ يستهلها بالسؤال الإنكاري عن رضى الشعر بأن يبقى أسيراً ومحاصراً بالأغلال، وتتوالى في هذا الصدد صفات سلبية عديدة للشعر في مؤدى ذلك السؤال الذي يستحيل من الإنكار إلى التعجب أو يمزجه به متدرجاً إلى التوبيخ واللوم. فهل يرضى الشعر أن تتلاشى بناظريه الأماني، وأن تمر به الليالي وهي نشوى فيهرب بعيداً عن مسيرتها، وأن ينسى نفسه وينسى عصره... وهكذا يمتد السؤال موالياً تلك الصفات الدالة على تقليدية الشعر وتخلُّفه، ثم تنتقل الصيغة إلى فعل الأمر للشعراء موجهاً صفة الملل إلى شعرهم: أفيقوا أيها الشعراء إنَّا=مللنا الشعر أغنية مُعادةْ مللنا الشعر قيداً من حديدٍ=مللنا الشعر كيراً للحدادةْ مللنا الشعرَ عبداً للقوافي=مللنا الشعر مسلوب الإرادة وبالطبع فإن القصيدة هكذا لا تقول جديداً إلى ما تداولته حناجر الشعراء المجددين وأقلامهم، وبوسع المرء أن يتحسس صوت العواد فيها بقدر ما يتحسس نفَس خليل مطران والزهاوي والعقاد وغيرهم. لكن هذا لا يعني أنها تفقد مبررها ودلالتها خصوصاً والثبيتي يردف ذلك بحفر مستمر في قصائده عن معنى الشعر في وجهة بديلة ومكتنزة بالتمرد على التقليد. وهو تمرد يكرس دلالة شعره على الفعل الإبداعي الذي يحيل الحضور إلى بؤرة تراء للمستقبل وللماضي. ولا شك أن الخليل الذي أشار إليه عنوان القصيدة، وهو الخليل بن أحمد الفراهيدي، دلالة اكتشاف ومعرفة وعقل بنائي وإبداعي، وعلاقته بالشعر من هذه الوجهة قائمة في اكتشاف أنظمة الوزن والتقفية في الشعر العربي القديم وتدوينها، ولهذا فالثبيتي لا يقصد هذه الدلالة وإنما يقصد دلالة الخليل عند المقلدين، التي استحالت به إلى المعيارية والقاعدية والقيد على الإبداع.