لماذا هذا الهروب أيها الصديق العزيز؟ سؤال وقف أمامي متلفِّعاً بعلامة استفهامه الكبيرة، متحدِّياً قدرتي على الجواب، مستثيراً عشرات الصور التي كانت ساكنة في مخابئها من الذاكرة. إنه الهروب المبكِّر الذي بدأه الدكتور سعيد عطية أبوعالي متجاوزاً إغراءات التوقُّف أو الرجوع جميعها، وكيف لا يتجاوز تلك الإغراءات وهو يهرب إلى النجاح؟! «هروب إلى النجاح» عنوان جميل لكتاب جميل صدر أخيراً في أكثر من أربعمائة صفحة من القطع الكبير، تتراكض على صفحة غلافه الخارجية خيول لا تعرف النكوص، تخوض ميادين العصامية والإصرار على مواصلة الهروب الجميل. كتاب ضمَّ فصولاً من سيرة ذاتية بدأت بانبثاق فجر ولادة صاحبها في قرية «وادي العلي»، إحدى قرى بني ظبيان، عام 1360ه، في ظل حياة ريفية مفعمة بالعناء والتعب وضيق ذات اليد، وبالسعادة والانشراح وصفاء النفس وراحة البال. وقرية وادي العلي قريةٌ ذات قيمة ومكانة من بين قرى قبيلة بني ظبيان التي وُلدت فيها بين خؤولة كرام في قرية عراء المجاورة لقرية وادي العلي مجاورةً يتمكَّن معها أهل الوادي من سماع صوت أذان الفجر الذي كان يصدح به جدّي لأمي - رحمه الله - بصوته الرخيم، كما يؤكد ذلك هذا الدكتور الهارب إلى النجاح. نعم إنَّه هروب أعرف شيئاً من قصته منذ أن بدأت الدراسة في مدرسة النجاح ببني ظبيان التي كانت قرية عراء وما زالت تحتضنها؛ فقد كنا في تلك المرحلة نسمع عن الهاربين إلى النجاح من أبناء القرية والقرى المجاورة، أولئك الذين انطلقوا في طريق طلب العلم برغم صعوبات الحياة، ووحشة السفر البعيد التي صرفت كثيراً من أبناء القرى عن مواصلة تعليمهم العالي آنذاك، وكان من أبرز الهاربين د. سعيد أبوعالي. لماذا هذا الهروب إلى النجاح؟ سؤال محظوظ؛ لأنه يفرح بإجابة وافية شاملة مستوعبة بين دفَّتي هذا الكتاب الجميل. كتاب يقدِّم رؤية شخصية لمسيرة رجل من رجال التعليم في بلادنا، درس وواصل تعليمه داخل المملكة وخارجها حتى نال شهادة الدكتوراه من أمريكا، وعمل في وزارة التربية والتعليم في مجالات شتى، كان من أهمها «المدير العام للتعليم في المنطقة الشرقية» لسنوات، كما يقدِّم رؤية شخصية لمسيرة التنمية الشاملة في المملكة العربية السعودية، ابتداء من جبال وشعاب منطقة الباحة التي كانت تعاني وعورة الطرق، وقِلَّة وسائل النقل التي كانت تعجز عن صعود شواهق الجبال، ومروراً بمكة المكرمة التي انتقل إليها الكاتب ولم يكن فيها إلا شارع واحد معبَّد بالإسفلت. «هروب إلى النجاح» قصة طفل كان يمشي إلى المدرسة حافياً أحياناً، ومنتعلاً أحياناً أخرى، وكان يجلس مع زملائه على الأرض أمام معلِّم يستخدم عصاه كما يستخدم قلمه؛ حرصاً على بناء عقول هذه البراعم التي ينتظرها المستقبل المشرق جزاء صبرها ومثابرتها.. وهذا الطفل هو نفسه الذي امتطى الطائرة مسافراً إلى أمريكا لمواصلة دراسته هناك. لنا أن نتخيل ما بين هاتين الصورتين من أحداث، ومواقف، وقصص، وتجارب، وصعود وهبوط، وقوة وضعف، هي - في مجملها - ما استطاع الدكتور سعيد أبوعالي أن يقدمه لنا بأسلوب جميل في هذا الكتاب الجميل. لقد استطاع الكاتب أن ينقلني بكل جدارة إلى أيام الطفولة في تلك المرابع الحبيبة، حتى لقد رأيتني صبياً أنحدر على قدمي من جبل «سليسلة» أقود «حمارة» جدِّي وعليها كيس من «حنطة البلاد» متجهاً إلى الطاحون الجديد في وادي العلي، قبل أن تحتفل قريتنا عراء بوجود الطاحون فيها. أهنئك أيها الصديق الغالي، الدكتور سعيد أبوعالي، على هذا الهروب الرائع الذي أخرج لنا هذا الكتاب البديع. إشارة: وإذا فات ما سعينا إليه= فسنلقاه بعد طولِ غياب