لأن دماء الشهداء لم تجف، ولأن المفقودين لم يعرف لهم أثر، ولأن الأسر لم تزل مشردة، ولأن السيارات لم تعد مهيأة، ولأن الجراحات لم تزل غائرة، ولأن فجيعتنا بأحبابنا وأهلينا لم تزل راسخة، ولأن صور الضحايا وآثار الفاجعة لم تزل قائمة في كل صحيفة وبرنامج فضائي، ولأن أصحاب الخزايا ولصوص العار وخونة الأمانة لم يفضحوا بعد، ولأن المتسربلين بالنفاق لم يزالوا يكتبون ويدافعون، ويقولون: الأحياء العشوائية، وقد حذرنا وبيّنا، ولم تسمع منهم إلا الشتيمة بدماء الشهداء، وعدم ذكر الترحم عليهم. لأن هذا كله وإلى يومنا هذا قائم، بادر مجموعة من شرفاء جدة، وأبناء وبنات جدة الذين أحبوها، وبكوا عليها، الذين يؤمنون أن (جدة أم الرخا والشدة)، وقفوا مع جدة، وقامت مجموعات العمل التطوعي بجميع مسمياتهم ممن عرفت وممن لم أعرف، ذكوراً وإناثاً، ليثبتوا أن جدة غير، وأن شبابها وبناتها غير. وقفوا بجد وإخلاص من الساعة العاشرة صباحاً وحتى العاشرة ليلاً، وقفوا وقفة رجل واحد، وهمة امرأة حديدية، بل وقف الآباء، ووقفت الأمهات، بل وحتى الصغار والأطفال. (جدة) لمن خانها ولم يعرفها، هي حاضنة العمل الخيري ورائدته، وهي سيدة الفضائل والخيرات، وهي مولِّدة المشاريع الإبداعية والأفكار الدعوية. (جدة) يا من باعها برخيص، هي بوابة الحرمين، ومأوى حجيج بيت الله الحرام ومعتمريه. (جدة) يامن ارتشى بدماء شهدائها، نحن أولادها، أولاد الهنداوية والعمارية وغليل والسبيل وباب شريف وحارة المظلوم. تخرجنا من بطنها وانتشرنا في ربوعها، وصرنا موئلاً للتعايش والتراحم، القبلي وغير القبلي، والسعودي وغير السعودي، وصرنا قبلة المجتمع المتجانس المتفاهم، حتى على المستوى الدعوي والاجتماعي والشعبي. (جدة) يا بائعي الكلام الرخيص، ويا وعاظ الأوهام، ليست متجراً للعابثين، ولا مأوى للخائبين، ولا قصراً للناهبين، ولا وكراً للمجرمين! (جدة) بأولادها، ولو كان عمر الواحد منا ثمانين عاماً. نعم كلنا أولادها، في شرقها وغربها، وشمالها وجنوبها. انظروا أولاد جدة يا من لم تعرفوهم في العمل التطوعي في ساحة المعارض، لتعرفوا أنهم يفدونها بكل ما يملكون. لا تظنوا أن أبناءها خائفون، أو ضعفاء مساكين، بل هم أصحاب فعال، وأبلغ ممن ينطق! منائرها ومحاريبها تزخر بأشهر الخطباء والقراء، وشواطئها وسواحلها تعج بما يبعث البهجة والسعادة. (جدة) لم تقل يوماً أنها مَلك، أو أنه ليس هناك من يشوِّه صورتها، ويعبث بها، ويلملم سوءاته فيها! ولكن رغم الحاقدين، والحانقين، والمنافقين، والمتآمرين، والناهبين، جدة (عروس البحر الأحمر) ومن لم يذق لذة الوصال بالعروس، فلن يذوقَ طعم الحياة!