ترك الأمور للاجتهادات الفردية في إدارة الشأن العام هو المشكلة، وبعض مظاهر التطبيق المتناقضة في هذا الشأن تؤكد ضرورة ما طالبت به أول من أمس من أهمية وجود إشارة حمراء نظامية يقف عندها الجميع، وأول هؤلاء الجميع العاملون في الحكومة الذين هم المعنيون أولاً باحترام وتطبيق نظام الدولة في إداراتهم، ثم إشهاره في وجه أي اجتهاد يخالفه من بقية الناس. من المظاهر المتناقضة ما أشار إليه أستاذنا الكاتب المتميز الدكتور عبدالله الفوزان في هذه الصحيفة يوم السبت الماضي تحت عنوان «كيف تحرم وزارة الشؤون الإسلامية أنشطة رخصتها الحكومة»، ومن ذلك ما صرح به مدير الشؤون الإسلامية بمحافظة جدة من أن إدارته منعت توزيع منشورات الصحة التوعوية حول أنفلونزا الخنازير لتضمنها صوراً لذوات الأرواح. نظام الدولة لم يحرم ما تم تحريمه من قبل بعض منسوبي وزارة الشؤون الإسلامية في الحالتين المذكورتين، ففي الحالة التي كتب عنها الفوزان هناك نظام في وزارة الإعلام هو نظام المطبوعات يرخص لما يجري تحريمه، وفي حالة صور ذوات الأرواح فإن صور الناس في الصحف المرخصة من الحكومة ما يؤكد أن النظام يبيح ذلك. وأنا هنا لا أناقش مسألة فقهية فيها اختلافات كثيرة بين محرم ومجيز، لكنني أتحدث عن ضرورة وجود نظام يحسم الأمر بين إدارات ووزارات حكومية، قبل حسمه لدى عامة الناس. وزارة الشؤون الإسلامية جزء من الحكومة مثلما وزارة الإعلام ووزارة الصحة كذلك، والوزارة تعرف أنظمة الحكومة وتدرك أن الإعلام أو الصحة لا يخرجان عن تلك الأنظمة، ولكن المشكلة تكمن في الاجتهادات الفردية لبعض موظفيها الذين يفتون بما يتناقض مع النظام العام، وقد قلت أول من أمس إن قاطع الإشارة الحمراء لا يعفى من العقوبة سواء كان جاهلاً أو مستعجلاً أو متعمداً، فإذا أعفي لأي عذر فقد النظام هيبته، وأصبح كل مخالف يبحث عن ذريعة أو مبرر يتيح له المخالفة إلى أن يصل الأمر إلى إلغاء أو إسقاط النظام نفسه. التنظيم السياسي المستغل للدين يعرف هدفه، لكنه يجد في مظاهر الغلو والتشدد ما يكرس نجاح وسيلته في التجييش، وتكثير الأتباع بصفة عامة، لكنه يجد دعماً أقوى بتصيده لمظاهر التناقض في التحريم والتحليل من داخل الحكومة، الأمر الذي – كما قلت مراراً – يسانده في صرف النظر عن هدفه السلطوي، وإشغال الناس بتكريس وسيلته وهي استغلال الدين، عن طريق التشكيك والطعن في النظام الإسلامي للدولة. إنني أتفهم – كما قال الفوزان – أن يخرج داعية «محتسب» لا يعمل في الحكومة فيحرم أنشطة رخصتها الحكومة، وأطالب بتنظيم يجعل اجتهاده في إطاره الطبيعي من الاختلاف حول التفسير والتأويل دون أن يكون له أثر سلبي فاعل على الوطن ومسيرته، لكن أن يأتي ذلك على يد موظف في الحكومة يعرف نظامها، فإن الأمر يحتاج أكثر من إشارة حمراء.