تبدأ الأمور صغيرة ثم تكبر، فتاوى التكفير التي طالت أفراداً مسلمين منذ نحو عقدين ثم مسؤولين ثم الدولة كلها لم تولد هكذا فجأة، كان لها مقدمات وأعراض لم يلتفت إليها أحد بصورة تستشعر خطراً، فنمت وترعرعت ظاهريا باسم الدين، وتحت هذا الستار نشأ التنظيم وترعرع وكبر معها، واليوم نحن أمام حقيقة لا مناص من مواجهتها، نحن أمام تنظيم سياسي استغل ومازال يستغل الدين لهدف سلطوي. أمس قلت إننا بحاجة إلى \"مظلة وطنية واحدة، مصونة ومحمية بنظام إسلامي بفهم واحد واضح معلن متفق عليه يقر الاختلاف ويجرم الانتهازية أياً كان مصدرها\". وأول من أمس نشرت \"الوطن\" خبرا عن \"أئمة مساجد ومصلين بجدة يصادرون منشورات التوعية بأنفلونزا الخنازير\" بحجة أن هذه المنشورات تتضمن بعض الصور والرسومات لذوات الأرواح. المنشورات أعدتها وزارة الصحة ويوزعها متطوعون أي إن الدولة موافقة، فما هو رأي هؤلاء الأئمة والمصلين الذين صادروها في الدولة؟ أسأل لأن الأمور كما قلت في البداية تبدأ صغيرة ثم تكبر، والتجربة فيما يبدو تعيد نفسها بصورة أو بأخرى، فالهجمة الأولى هنا تلقاها المتطوعون الذين يوزعون وستتلقاها بعدهم وزارة الصحة، إلى أن يصل الأمر إلى الدولة، سيناريو يتكرر، وحين يتم التنبيه على خطورة أمر كهذا تجد من يخرج متسلحاً بأدلة دينية حول حكم التصوير فندخل إلى متاهة الخلافات والاختلافات الفقهية حول الحكم، وقد تستجيب وزارة الصحة لأكثرها تشدداً، فيمضي التنظيم في استعادة قواه مجدداً. وإليك مثالا آخر، فهذا كاتب يعد نفسه من الوسطيين، كتب أول من أمس متخيلاً ومتسائلاً ماذا لو أصبحت خالية تماما من الدروس الدينية والمحاضرات الإسلامية وحلقات التحفيظ والمؤسسات الخيرية، وغيرها من المناشط التي عرفت بها المملكة. هل هذا كاف لنزع جذور الإرهاب كما يصرح أو يلمح أو يحلم به بعض المثقفين؟ وأخونا – الذي يتوخى الوسطية – لم يقل أين قرأ أو سمع هؤلاء المثقفين السعوديين الذين طالبوا بإغلاق المساجد، وإيقاف حلقات التحفيظ وغيرها من المناشط الأخرى، لكنه قطعاً قرأ وسمع من يقول ويكتب راقبوها جميعا، لأن بعضها كانت محاضن تطرف ولدت إرهابيين أصبحوا جنودا في صفوف التنظيم، وشهاداتهم واعترافاتهم موجودة وموثقة، بمعنى أن هناك حقائق وليست تلميحا أو أحلاما، والإشارة إلى هذا الخطر الواضح الكامن تحت ستار الدين والتدين ليست مساسا بأحد الأساسات الإسلامية للدولة السعودية – كما يزعم – وإنما هي تعزيز لها، بعد أن انكشفت كذبة التنظيم في مناصرة الدين. إن مصادرة منشورات الصحة في جدة، وتهويل أخينا الكاتب لما يحدث من كشف لعوار استغلال الدين، سواء كان ذلك بحسن نية أو بغيرها، إنما يصب في مصلحة ترميم قوى التنظيم السياسي السلطوي وتغذية وسيلته الانتهازية في ساحتنا المحلية، وحيث إنني مقتنع بأنه ليس من حق أحد أن يصادر رأي أحد في محاولة علاج مشكلة الإرهاب والتطرف – كما هي قناعة أخينا الكاتب الوسطي – فإنني أرى أن الحل الجامع المانع هو المظلة الوطنية النظامية التي لا تسمح لأحد أن يحدث خرقا في سفينة الوطن سواء كان هذا الأحد وسطيا أو متطرفا. التنقيب في نوايا الناس مستحيل، وإيقاف الاختلاف في الفهم والتأويل والتفسير مستحيل أيضاً، والنظام وحده كفيل بردع من يحاول خرق السفينة سواء كان جاهلا أو قاصدا، منفردا أو متحيزا لفئة. إن أخشى ما أخشاه أن يغير التنظيم تكتيكه، فيجد منا الدعم والتأييد، بعد أن يقنعنا أن كشف محاضنه يعني المساس بالإسلام، وليس فضحاً لانتهازيته.