جادت عقول بعض المفكرين من المسلمين بمضامين وأفكار وأطروحات لا تملك إزاءها إلا أن تقول: اللهم سلّم سلّم! وكأنَّ الإسلامَ الذي أمر الله سبحانه وتعالى باتِّباعه وأوضح سبيله بقوله ( ادخلوا في السلم كافة ) أي (ادخلوا) في الإسلام بكليتكم مشاعرَ وأفكاراً وسلوكاً ، كأنّ هذا الإسلام له عندهم تفسير آخر ! فالمفكر مهما علا كعبه إلا أنه في النهاية بشر ، له حدود يقف عندها . ولا يمكن ( لطبيب ) أن يفسر حالة نقص الأوزون ، ولا ( لبويجي ) أن يشرح تركيب الجينات . ولو طالع عشرات الكتب وسمع بعض المحاضرات بكليات اللغات ! وقد تحدث الدكتور عبدالله قادري الأهدل في مذكراته الممتعة (12/39) عن حواره مع المفكر الشهير (رجاء جارودي) حول رأيه في الإيمان باليوم الآخر وما فيه من جنة ونار ، فكان مما قاله جارودي: «الجنة والنار هنا في الدنيا ، الإمام الغزالي قال: الجنة والنار في الحياة الدنيا ، فالجنة تشعر بها عندما تسير في طريق الله»!. ومما قاله أيضاً: «إنّ الإنسان من روح الله ، نفخ فيه من روحه ، ونحن نحمل في أنفسنا الجنة والنار ، فإذا شعرتُ أن الله عز وجل تخلّى عني . معناه أنا في النار ، أشعر بهذا فوراً ، ولكن ليس بالتصور الذي يظنه المسلمون أنه بعد الموت توجد نار ، يُضرب الإنسان إذا أذنب في الدنيا ، وإذا عمل طيباً يدخل الجنة ! » . وهذا الذي قاله المفكر (جارودي) هو مثال واضحٌ لمدى غبش التفكير عند قمةٍ من قممِ العلم والثقافة في عصرنا الحديث ! إن الصغير من المسلمين يستطيع ببراءة لا ببراعة أن يفكك هذا التصور الذي يحملُهُ علمٌ من أعلام الفكر! ولذلك تحيّر جارودي ولم يتكلم عندما سأله د.الأهدل سؤالاً يسيراً ، قال له: ما رأيك في الظلمة من الجبابرة الذين يظلمون الناس في الأرض ويموتون قبل أن يؤخذ منهم حق المظلومين ، متى يعاقبون؟!! إن ثمة فئة تملك القدرة الفائقة على قيادة أبرع وسائل النقل الحديثة ولكنها لا تستطيع أن تقود نفسها أمام شهوة عابرة أو نزوة آنية! إن التفكير المحاط بسياج مدنية ما ، أو نتيجة الحوم حول كتب محددة قد يفضي إلى شذوذات غير منطقية ! وتنقلاتٍ عنيفة ! وخروجٍ عن مقتضى العلم والفهم ! فالمجتمع الفرنسي الذي عاش فيه المفكر د. حسن حنفي ، والذي عاش فيه من قبل (جارودي) أدّى إلى نفس الحالة الطبيعية المتوقعة . فبعد عشر سنين من مكوث د. حسن حنفي في فرنسا كتب: ( من العقيدة إلى الثورة ) و( من النقل إلى الإبداع ) و( من النص إلى الواقع ) و( من الفناء إلى البقاء ) و( من النقل إلى العقل ). وكلها مراحل انتقال كلي ! إنني أتفهم أن يتطور فهم الإنسان للشريعة ، وتتسع مداركه ، ولكني أتفهم كذلك أن هذا التطور يجب ألا يكون بمعزل عن عمق الاطلاع على النص والرجوع لأصحاب الصنعة أو ( صيارفة الحديث ) كما هي عبارة الإمام أحمد . أتفهم أن يقرأ إنسان مثقف ثقافة واسعة حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم (من غشنا فليس منا)، فيصور لنا الغش الاقتصادي ، والغش الفكري ، وغش السياسة ، وغش التصورات ، وغش العروض وهلم جراً ، فيكون كلامه هذا تفسيراً وتوضيحاً وتجديداً ، ويكون قفزةً (من النقل إلى الإبداع) و(من النص إلى الواقع)، و(من النقل إلى العقل)، أما أن ينتقل (من العقل إلى اللاعقل)، و(من النص إلى خارج النص)، ومن (المنقول إلى اللامعقول)، فهذا هو الغش الجديد ، والتحليق في الضباب ، حيث لا مشاهدة حقيقية ، ولا مآلًا مطمئناً !