( الدقة الثالثة ) ( اختبأنا بين سيقان القصب حتى غربت الشمس ، بدأنا نتجهز للرحيل ، عندما خيم الظلام ، زحفنا باتجاه الأسلاك الشائكة ، أخذ يقص الأسلاك بمقصه الحديدي ، سرعان ما فتح فجوة كافية ، و بينما زحفت بقعة الضوء مبتعدة عنا ، تسللنا إلى داخل القاعدة العسكرية ، جريت خلفه و اختبأنا خلف إحدى الدبابات ، فجأة سمعنا أصوات تقترب ، وضع يده على فمي يحبس أنفاسي ، مر بعض الجنود السكارى بجوارنا عائدين إلى ثكناتهم ، رحلوا و لم يشعر أحد منهم بوجودنا ، تنهدنا اطمئنانا ، جرى إلى أحد الأبواب ، فتحه برفق ، دخلنا إلى داخل الغرفة ، همس بأذني ) هذه هي غرفته ، انتظره هنا ، أما أنا فسأرحل حتى لا أتعرض للمحاكمة . ( فجأة سمعنا أصوات تقترب ، دار المفتاح في الباب ، قفزنا بسرعة نختبئ خلف الستائر الحمراء ، أحسست بقلبي يكاد يقفز من صدري ، نظرت إلى الباب ، فإذا بظل رجلين يهمان بالدخول ، اتجه احدهما إلى أحد المقاعد و ألقى نفسه فوقه ، و أخرج سيجارا و أشعله ، في هذه اللحظات قام الرجل الآخر بجذب الخيط النازل من المصباح المتدلي بمنتصف الغرفة فأشعلها ، سقطت بقعة الضوء فوق وجه الرجل الجالس فإذا به (جيفارا) ، و قف الرجل الآخر و قد أدار لنا ظهره و قال : لابد أن ترحل ( تشي ) لا مكان لك هنا بعد الآن . ( نظر إليه ( جيفارا ) نظرة استنكار و نفث دخان سيجارته ثم قال : أرحل ؟ هل ستحل المشكلة بهذه الطريقة ؟ ( تشي ) أنت من وضعت نفسك بهذا الموقف ، لقد حذرتك أكثر من مرة ، قلت لك لا داعي لأن تتهجم على السوفيت ، و حذرتك من أنك تغضبهم بهذه التصريحات الغير مسئولة . و أنا قلت لك أيضا أنني احتقر هؤلاء البيروقراطيين ، و قلت لك مرارا أنني أكره هذا الاتكال على السوفيت و لابد من البحث عن وسائل أخرى لتمويلنا . كنت تريدنا أن نرتمي بأحضان (ماو تسي تونج ) ؟ و دائما كنت أقول لك أننا يجب أن نمسك العصا من المنتصف ، لا فائدة من كل هذا الآن ، ( تشي ) برغم اختلاف وجهات نظرنا و علمي التام بأن لك بعض التحفظات على معتقداتي الاجتماعية ، و برغم أنني غضبت منك لجعل أخي يعتنق الشيوعية و أدخلته في عضوية الحزب و أخفيتما الأمر عني ، برغم كل هذا إلا انك تعلم جيدا أنك رفيق كفاحي و صديقي الوحيد ، و تعرف أيضا مدى محبتي لك ، من هذا المنطلق فقط أطلب منك الرحيل ، فوجودك خطر على حياتك ، سيقتلونك، حاول أن تفهم ، لقد وصل الأمر إلى طريق مسدود ، لقد أطلقوا النار عليك أمامي . و ما موقفك أنت مما يحدث ؟ هل ستبقى مكتوف الأيدي كعادتك ؟ لا فائدة ، نعم لا فائدة ، قلت لك يوما أن سلبيتك هذه ستقضي عليك يوما ما ، هل تذكر ؟ عندما أمرت بإعطاء الدواء للأسرى لكي يتولوا العناية بالجرحى ؟ وقتها وقفت في وجهك و قلت لك : لا ، يجب أن نوفر الأدوية لجرحانا نحن ، و صممت أنت على رأيك و قمت بتوزيع الأدوية بنفسك على جميع الجرحى، هل تذكر؟ حتى أعداء الثورة كنت متساهلا معهم ، إياك أن تعتقد أنك كنت ستصل إلى ما وصلت إليه الآن بدون حزمي و صرامتي ، و الآن جاء دورك لتكون حازما و صارما و لو لمرة واحدة. و ما هو الذي تطلبه مني كي أكون صارما و حازما من وجهة نظرك ؟ أن أقتلهم جميعا من أجلك ؟ ( تشي ) هو نفسه ( تشي ) لم يتغير ، ألا تكفيك كل هذه الدماء التي أرقتها بحجة تأمين الثورة من معارضيها ؟ لا ، لا يمكن أن أسمح لك بإراقة المزيد من الدماء ، لا مزيد من الدماء ، حاول أن تفهم ، رحيلك سيحل كل هذه المشاكل، أرجوك ( تشي ) إنه آخر رجاء سأطلبه منك . هل تذكر عندما تعارفنا في منزل (ماريا أنتوني) ؟ وقتها رجوتني للمجيء معك إلى كوبا ، يا لسخرية القدر ، و الآن ترجوني لأرحل عن كوبا ؟ في يوم من الأيام بينما نسير وسط المستنقعات ، تساءلنا عن الشخص الذي يمكن أن نخبره في حال موتنا ، عندها تيقنا فقط أن الموت يقترب منا ، و أيقنا جميعا أنه من الممكن أن نموت في أية لحظة ، يمكن أن أدفع روحي ثمنا لحرية كوبا ، و يبقى الجبناء ليحصدوا ما زرعناه ، أما اليوم بعدما أصبح كل شيء لكم ، فلا ثمن لروحي ، أصبحت الآن بلا ثمن ؟ هل تعرف أن خطئي الوحيد ، هو أنني لم أفهمك من المرة الأولى التي التقينا فيها ، على العموم إذا كانت هذه رغبتك فلا حاجة لي بالبقاء ، و لكن ماذا ستقول للشعب الكوبي ؟ لا عليك فأنا أعلم كم هم متعلقون بك ، و ما علينا إلا أن نؤكد هذا التعلق ، فأنت من وجهة نظرهم البطل الذي حررهم ، أنت المناضل الأسطورة الذي يدافع عن الفقراء و المغلوبين على أمرهم ، و لكن أرجو أن تكتب رسالة تقول فيها انك خرجت طوعا لا كرها ، ستقول لهم خلالها أنك رجل لا تستطيع أن تتجمد داخلك دماء الثورة بالرضوخ للمناصب ، و أيضا يجب أن تؤكد على أنك لا تهتم متى و أين ستموت ، و أن ما تهتم به أن يبقى الثوار واقفين يملئون الأرض ضجيجا كي لا يغفل العالم و ينام بكل ثقله فوق أجساد الضعفاء و المظلومين ، هذه الكلمات الرنانة التي كانت تشعل الحماس داخلنا . و زوجتي و أولادي ؟ سأضمن لهم عيشة كريمة فهم عائلة المجاهد البطل الذي حرر كوبا ، و لكن لي طلب واحد . و ما هو هذا الشرط ؟ إنه طلب و ليس شرطا . لا يهم فلا فارق بينهما عندي الآن ، ما هو طلبك ؟ ألا تذهب إلى فيتنام ، فأنت تعرف اشتعال الحرب الكلامية بيننا و بين أمريكا و لا نريد أن يكون وجدوك في فيتنام سببا في تأزم الموقف أكثر من هذا ، ثم انه هناك الكثير من الأماكن التي تستطيع أن تجد نفسك بها حرا طليقا ، هناك الكثير من الأماكن الغير مستقرة بأنحاء العالم ، كم كنت أتمنى أن أكون مثلك بدون واجبات ، و أعود و لو لساعة واحدة لأيام الحرية و الانطلاق ، و لكن تذكر و أنت في غمرة حريتك و انطلاقك أن كوبا تفتح لك ذراعيها في أي وقت تتأزم فيها الأمور ، و تذكر أيضا انك كوبي و كوبا لا يمكن أن تنسى أبنائها . لا ، لا حاجة لي الآن بكوبا ، لقد خاب أملي بكل شيء ، حياتي ، أحلامي ، كل شيء ، كانت أمنيتي و حلمي أن أموت هنا بكوبا ، و لكن الآن و بعد ما حدث فلا حاجة لي بالبقاء ، يجب أن أرحل باحثا عن مكان أنسب للتخلص من حياتي ، و من الآن لا يربطني بكم أي شيء ، أي شيء . ( وقف (جيفارا) ، نزع سيجاره من فمه ، ألقاه أرضا ، فركه بحذائه ، ثم انطلق خارجا و لم يعقب ) ( يتبع)