( الدقة الثانية ) مازال صوت الشيخ إمام في أذني ينشد ) ( جيفارا مات ، جيفارا مات ) أخذت أتمتم : لا لم يمت ، سأبقى العمر كله أبحث عنه في كل مكان . ( أعادني صوت دقات القطار على سندان القضبان الحديدية إلى حيث أجلس ، أخذ القطار يأرجحنا ذات اليمين و ذات اليسار ، نظرت من نافذة القطار فإذا به يشق السهول الشاسعة التي اكتست باللون الأخضر ، أضفت عليه أشعة غروب الشمس طيف برتقالي شاحب ، أخذت أراقب قطيع السحب البنفسجية التي شتتها الرياح هنا و هناك ، ما هي إلا لحظات حتى بدأ الظلام يخيم على المشهد ، بدأت أتحول بنظري إلى داخل القطار ، كانت إحدى عربات الدرجة الثالثة التي أجلس بها ، كان الضوء بها خافتا لا يكفي لرؤية الوجوه من حولي بوضوح ، تتسلل بين الحين و الآخر من خلال النوافذ خطوط الضوء تركض فوق الملابس و الوجوه ، ألمح خلال ومضات الضوء البارقة وجوه منكسرة ، صبغت الشمس بشرتهم بلون أديم الأرض ، عائدون كعادتهم كل مساء إلى ديارهم بعد واحدة من رحلاتهم اليومية للعمل بحقول الأغنياء ، كانت تجلس بمواجهتي سيدة نحيفة نقشت السنوات العجاف على وجهها سجلا من الأسى و المعاناة ، كانت تحمل فوق ركبتيها منديل الصبر ، تصره على ما جاد به أصحاب المزارع التي تعمل بها ، صوت اعتصار معدتها الخاوية تحرش بمسامعي ، عندها لمحت ظلال أفراخها الجياع تتراقص بمقلتيها ، يستقبلونها مهللين ، يقفزون لينالوا من فمها العطايا ، تحاول أن تمنع لمعة أسنانها التي كادت أن تتسلل من بين شفتيها لكنها تفشل ، لمحتني انظر إليها ، ازدادت ابتسامة الرضا اتساعا ، وضعت كفها خجلة على فمها ، حاولت تبادل أطراف الحديث معها ) مرحبا . مرحبا يا بني ، يبدو انك لست أرجنتينيا ، أليس كذلك ؟ نعم إنما أنا هنا للبحث عن صديق قديم اسمه جيفارا ؟ هل تعرفينه ؟ ( قفزت من عينيها علامات الاستفهام ، حاولت تنشيط ذاكرتها ) جيفارا ، جيفارا ؟؟ إرنستو جيفارا دي لا سيرنا ؟؟ ( لوت شفتيها و هزت رأسها و كأنها لا تفهم ما أقول ، عندها مالت إلى الرجل الذي يجلس بجوارها و سألته ) هل تفهم ماذا يقول ؟ ( عندها وجهت سؤالي إليه ) هل تعرف جيفارا ؟ ( هز الرجل رأسه أحسست انه أيضا لا يفهمني ، عندها ناديت بالجالسين ) ألا يوجد أحد أرجنتيني هنا ؟ ( عندها رفع جميع الجالسين أيديهم ، قال احدهم ) نعم أنا أرجنتيني ، ماذا تريد ؟ ألا يعرف أحدكم جيفارا ؟ ( خيم الصمت على الجميع ، عندها تذكرت أنهم يطلقون عليه ( تشي ) فقلت لهم ) هل يعرف أحدكم تشي ؟ تشي جيفارا ؟ ( عندها لمعت أعينهم و كأنهم فهموا ما أقصده أخيرا ) قال أحدهم : تشي جيفارا ؟ ( نطقها بالجيم غير المعطشة ) نعم ، نعم ، ( وجه كلامه لمن حوله ) يقصد الهارب . هل تعرفونه ؟ ( قال آخر ) نعم أنا أعرف ( تشي ) . هل تعرفون أين أجده ؟ ( ارتفعت ضحكات الجميع ، حاول بعضهم التماسك ) قال أحدهم : عذرا ، هل تبحث عن تشي جيفارا بالأرجنتين ؟ أو ليس أرجنتينيا ؟ ( قاطعني آخر ) لا لم يكن يوما أرجنتينيا . ( قالت المرآة ) نصيحتي لك يا بني ، ابحث عنه في أي مكان آخر إلا هنا . ( قاطعتها امرأة أخرى ) اذهب و ابحث عن جيفارك هذا في جواتيمالا ، أو كوبا ، أو بوليفيا ، أو الكونغو ، و لكن نصيحتي لك ألا تحزن على قطعك كل هذه المسافات ، فأنت تجري وراء سراب . ( سألني الرجل الجالس بجواري ) من أي البلاد أنت ؟ أنا عربي . هل في بلادكم يمكن أن يترك الرجل أهله و يرحل ؟ هل يمكنك مثلا أن تترك أطفالك الصغار ضائعين مشردين لا عائل لهم بحجة أنك ذاهب لتعتني بأطفال مشردين في بلد آخر ؟ هل هذه رجولة و بطولة في نظركم ؟ عفوا سيدي ، و لكنه رحل بعد أن أصبح طبيبا حتى يساعد الفقراء و المحرومين و المرضى مثل المصابين بالجذام مثلا في بلاد أمريكا اللاتينية . ( ضحك الجميع مرة أخرى ، لمحت الدموع تترقرق في عيون المرأة التي تجلس أمامي و قالت ) هل تضحك على نفسك أم تظن انك تضحك على أناس أميين لا يقرئون و لا يكتبون مثلنا ؟ أو ليس هنا فقراء في الأرجنتين ؟؟؟؟ أو ليس هنا مرضى كانوا في أمس الحاجة إليه ؟ ( قاطعها رجل آخر ) لقد كان شخصا غاية في الأنانية ، (تشي) لم يحب في هذا العالم إلا نفسه فقط . ( قال آخر ) كان مثله (أنا و بعدي الطوفان) ، بالله عليك ألم يترك والده و والدته المسكينة التي أخذت تبكيه ليل نهار و رحل ؟ ألم يترك زوجته الأولى هيلدا و رحل ؟ ألم يترك زوجته الثانية و أولاده منها في كوبا و رحل ؟ ( قالت المرأة ) من لا خير فيه لأهله فلا خير فيه للغرباء ؟؟؟؟؟ عفوا ، و لكنه كان مطاردا من المخابرات المركزية كما علمت . ( قال الرجل بجواري ) أية مخابرات مركزية التي تطارد طالبا أنهى دراسة الطب أيها الأبله ؟؟؟؟؟ ( حاولت الدفاع عنه ) أنتم تظلمون الرجل فلقد كان رجلا رومانسيا رقيقا ودودا رحل وقتها لإشباع هوايته بالتصوير و اصطياد الفراشات . ( قال الرجل بجواري ) هل البطولة عندكم أيضا اصطياد و قتل الفراشات لا لشيء إلا لمجرد أن تزين بألوانها غرفتك ؟؟؟؟ أي رومانسية و رقة في هذا بالله عليك ؟؟؟؟ لا لا لا ، انتم تظلمون جيفارا ، أنتم تتحاملون عليه ، رجل مثل جيفارا يجب أن تفخروا به ، يجب أن يكون قدوة و مثالا لكل الأرجنتينيين . ( ردت المرأة بصوت مرتفع و كأن صبرها قد نفذ) و ماذا فعل لأهله و للأرجنتين و فقراء و مرضى الأرجنتين؟ ( عندها توقف القطار ) عفوا فلابد لي أن أنزل بهذه المحطة . ( حملت حقيبتي و نزلت ، تتبعتني عيونهم و أنا أقف على الرصيف ، بدأ القطار في التحرك ببطء ، أخرج البعض رأسه من نوافذ القطار يلوحون لي بأيديهم ، عندها رفعت صوتي لكي يسمعني الجميع ) فإذا لم يكن جيفارا مثالا لكم كما تقولون ، فمن يكون مثلكم الأعلى إذن ؟ ( عندها بدأ أحدهم يفك أزرار قميصه فظهرت صورة مرسومة على ملابسه الداخلية ، ثم قال ) دييجو أرماندو مارادونا . ( صرخت ) مدمن المخدرات ؟؟؟؟؟؟ ( رد أحدهم بصوت عالي ) كلاهما ليس قديسا أيها الأبله . ( عندها علا التصفيق بينما بدأ القطار يبتعد رويدا رويدا ، إلا أن صوتهم ملأ الفضاء من حولي ، أخذوا يتغنون ) مارادونا ، مارادونا ، مارادونا . ( يتبع )