بريطانيون كثر خدموا في منطقة الخليج كموظفين في دوائر سلطات الحماية أو في شركات النفط، ومنهم من أتى كمستشرق أو مكتشف للصحارى والآثار المجهولة أو لأهداف تجسسية تخص مصالح بلاده. بعض هؤلاء عاش في المنطقة ورحل دون أن يترك أثرا، فيما البعض الآخر تماهى مع المجتمع الخليجي وانغمس في عاداته وتقاليده إلى حد العشق، فترك وراءه مؤلفات تاريخية واجتماعية وعلمية قيمة سجل فيها كل ما وقعت عليه عينه من أحداث ومشاهد وتغيرات. وبطبيعة الحال، هناك من أبناء الخليج من هو مسكون بنظرية المؤامرة إلى أبعد الحدود، وبالتالي فهو لا يستحسن ما سجله هؤلاء، بل يضعه في خانة التشويه والتخريب وخدمة (الكفار) والمصالح الإمبريالية. من ضمن رجالات الدولة البريطانية في الخليج الذي عشق المنطقة كما لم يعشقها غيره من نظرائه ومواطنيه، بل الذي صال وجال فيها متنقلا من مكان إلى آخر بحكم وظيفته، وتعلم لهجة أبنائها، وعاش في صحاريها، وتعرف على قبائلها، ومارس عاداتها وتقاليدها، وأطلق الأسماء العربية الخليجية على أبنائه، وآثر أن يعيش بها بعد تقاعده، الضابط والسياسي والمؤرخ والمستشرق هارولد ريتشارد باتريك ديكسون الذي من فرط عشقه للعرب وبدو الصحراء أطلق على ابنه اسم (سعود، توفي عام 2005) وعلى ابنته اسم (زهرة)، لا تزال على قيد الحياة وتعيش في إنجلترا، فصار يكنى ب(أبي سعود)، وصارت زوجته (فيوليت بنيلوب ديكسون) تكنى ب(أم سعود). لكن ما الدافع وراء عشق الرجل للعرب يا ترى؟ الإجابة نجدها في المقدمة التي وضعها لكتابه الموسوم ب(عرب الصحراء) الذي صدرت منه طبعات عدة منذ أربعينات القرن العشرين، والذي سنتحدث عنه بالتفصيل لاحقا. كتب ديكسون في مقدمته تلك قائلا: «ولدت عام 1881 في بيروت، وانتقلت مع أهلي بعدها إلى دمشق وأنا ما أزال رضيعا، وقد نضب حليب أمي مبكرا، وحدث أن كان (الشيخ مجول)، من عشيرة المصرب من السبعة، وهي من قبائل عنزة الفرعية المعروفة، في دمشق في ذلك الحين، فدفعته شهامته للتطوع بتدبير مرضعة لي من نساء قبيلته، وما لبث أن جاءت امرأة بدوية أرضعتني عدة أسابيع كما تقول أمي، والذي يؤهلني في أعين البدو أن يكون لي صلة دم معينة بقبيلة عنزة، لأن رضاعة حليب امرأة ما في الصحراء يجعلك تصبح ابنها من الرضاع، وقد ساعدتني هذه الحقيقة كثيرا في تعاملي مع بدو الصحراء والبدو المحيطين بالكويت»، كان حب ديكسون للعرب يسري في عروقه لأنه كان أخاهم من الرضاع. ولد ديكسون كما تقول سيرته الذاتية في 14 فبراير 1881، في بيروت بولاية الشام، التابعة وقتذاك للدولة العثمانية، حيث كان والده يعمل كقنصل عام لبريطانيا العظمى في دمشق والقدس. وتلقى تعليمه الأولي في مدرسة سانت إدوارد بأكسفورد، ثم أكمله في كلية وادهام بجامعة أكسفورد العريقة. في عام 1903، التحق بفرقة حرس المشاة التابعة للجيش البريطاني كجزء من أداء الخدمة العسكرية الإلزامية، وبعد أدائه لتلك الخدمة في إيرلنداوالهند تم نقله إلى الفرقة 29 بسلاح الفرسان في الجيش البريطاني الهندي. وانخرط في الحرب العالمية الأولى وبعد انتهائها، انتقل ديكسون إلى البحرين ليعمل بها كوكيل سياسي لبريطانيا، لكن تم نقله منها إلى الهند سنة 1923 ليعمل سكرتيرا لمهراجا بيكانير -تقع بيكانير في شمالي غرب ولاية راجستان الهندية، وصارت محمية بريطانية في 1818 وظلت كذلك إلى ما قبل استقلال الهند بوقت قصير-. وأثناء عمله في الهند تزوج من (فيوليت بنيلوب) التي كان قد تعرف عليها سنة 1919 أثناء عملها في بنك (شركة كوكس) -مجموعة مصرفية بريطانية تأسست سنة 1758 متخذة من الهند مقرا رئيسيا لها للتعامل في الصرافة والشحن والسفر والطباعة والنشر وبيع الأسلحة-. * أستاذ العلاقات الدولية من مملكة البحرين