كنت قد عزمت على استعراض بعض كتب المستشرقين المتعلقة بتاريخنا وآثارنا والمترجمة حديثاً ولكني لم استطع تجاوز هذا الكتاب الذي قام بإعداده عطية بن كريم الظفيري عن أحد المستشرقين الإنجليز الذين عنوا بلهجات القبائل العربية عناية خاصة فعاش مع البدو الرحّل يتجول معهم في الصحراء، ويلبس الملابس العربية، ويشرب حليب الإبل ، ويتسامر معهم ويستمع إلى حكاياتهم بإنصات، ويردد معهم الشعر النبطي، ويدوّن الألفاظ البدوية من أفواه كبار السن، ويسجل القصائد والسوالف، ويقارن بين اللهجات. إنه العالم اللغوي بروس إنغام Bruce Ingham أو كما يحب أن يسمي نفسه (أبوحسين الظفيري) أستاذ اللغويات في معهد الدراسات الشرقية والأفريقية بجامعة لندن. المفارقة في هذا الكتاب الذي جاء تحت عنوان (عاشق البادية الإنجليزي) هو أن يأتي أحد أبناء البادية ويؤلف كتاباً عن هذا المستشرق ويهديه إليه بمناسبة بلوغه سن السبعين بعد سنين طويلة كان هذا المستشرق هو الذي يؤلف فيها عن البادية وأهلها ويدرس حياتها ولهجاتها ! إنغام الذي يجيد العربية والفارسية إضافة إلى الإنجليزية والفرنسية واللاتينية ولغة لاكوتا لغة بعض الهنود الحمر وشيئاً الألمانية والتركية والنرويجية تنقل بين السعودية، والكويت ، وقطر، والعراق ، وإيران، وأفغانستان، والولايات المتحدةالأمريكية وكان هاجسه الوحيد توثيق وحفظ اللهجات المعرضة للانقراض، ومما يدل على اهتمامه العلمي أنه عندما نما إلى علمه وجود مجموعات بشرية خارج الوطن العربي تتحدث العربية سعى إلى الوصول إليها حيث ذهب إلى أفغانستان وزار محافظة بلخ قرب مدينة مزار شريف وهناك وجد أربع قرى يتحدث أهلها العربية وحسب رواياتهم التقليدية ذكروا له أنهم قدموا من اليمن في زمن تيمورلنك! إنغام يتحدث العربية باللهجة البدوية النجدية التي يضفي بها جواً من المرح والفكاهة تجعلك عندما تستمع إليه تعجب من قدرات وإمكانيات هذا (الخواجة) على استيعاب اللغة وتمكنه من حفظ عدد كبير من قصائد الشعر النبطي مع السرد القصصي لمناسباتها وفهمه لألفاظها ومدلولاتها ومنها على سبيل المثال قصيدة عبدالله بن رشيد: ارم النعول لمغزل العين يا حسين واقطع لها من ردن ثوبك ليانة وقصيدة حمود بن سويط: البارحة كل أول الليل أقول آه من علةٍ باقي الملا ما درى له وقصيدة عبدالله القريفة: يا جماعة كيف ما فيكم حميّا كيف صيّاح الضحى ما تسمعونه وكما يظهر للجميع أن هذا المستشرق صاحب هدف علمي خدم من خلاله اللغة العربية ولهجاتها وتراثها الشفاهي وأجناسها الأدبية فكتب أبحاثاً أكاديمية محكمة نشرت على مستوى العالم ومنها ما كتبه عن السالفة كجنس أدبي ، وعن لهجة مطير، ولهجة قبيلة الظفير، ولهجة آل مرة، ولهجة قبيلة الرولة، وقارن بين لهجات شمر وعنزة والظفير وأهل القصيم وأهل سدير ، وأصدر كتاباً عن قبيلة الظفير وكتاباً عن اللهجة النجدية وكتاباً آخر عن قبيلة عنزة. جاء كتاب الظفيري الصادر في 2013م عن مكتبة آفاق الكويتية في 160 صفحة على خمسة فصول الأول تضمن الحوارات التي أجراها مع إنغام في أزمنة وأمكنة مختلفة والثاني تضمن الفصل الأول من كتابه لهجة أهل نجد والفصل الثالث تضمن محاضرة لإنغام عن اللغة العربية واللهجات في منطقة الخليج والجزيرة العربية والرابع تضمن بحثاً عنوانه:(أسلوب السالفة وفن سردها) أما الفصل الخامس فكان معجماً لبعض المفردات والتعابير الاصطلاحية النجدية. وبينما نذكر أن عطية الظفيري سبق له ترجمة كتاب إنغام (قبيلة الظفير) قبل سنوات فإننا ننتظر ترجمته لكتابه الآخر (لهجة أهل نجد) كما وعدنا مقدرين له اهتمامه بهذه الشخصية.