يا أنيس الرافعي منذ سنوات طويلة وأنا الغارق في القراءة أنشد ليس إلى عمق الحكايات فليس هناك عندك ما هو عميق بالمعنى المتداول. وليس إلى الحبكة فليس عندك رغبة في شد قارئك المفترض.. أنت تلقي به في ليل النص البارد ونهاره العميق وتقدم له وثائق بصرية لم يرها أبدا في حياته. قائلا: «ألم تسمع كذا؟». وتقدم له اقتراحات موسيقية لم يتعود سماعها أبدا. وتتحدث عن لوحات ورسامين لو رآهم لما فرق بينهم وبين تلك اللوحات الباهتة المعلقة في بيت الصالة. مهتم أنا في كتابتي بجعل العالم/ الجزء الحي في آلة الحياة موضوعي. ووجدتك تفعل ذلك بقدرة نادرة. مهتم أنا أيضا بالحكي باعتباره شجرة معقدة وليس مجرد عود. فوجدتك تستعمل بسهولة نادرة الحكي باعتباره غابة. مهتم أنا أيضا بإدماج الفنون الأخرى في النص. وفعلا استطعت إصدار كتب تدخل إلى بيت القصيد القصة القصيرة والرسم والتأمل الفلسفي والفكري، أردت أن أعيد الشعر إلى مكانه الحق. ولكني وجدتك يا صديقي تفتح باب القصة القصيرة على حدائق الشعر المعلقة فتعطيها إيقاعا قل وندر أن رأيناه عند كاتب من كتابنا. ورأيناك تدمج في القصة فنونا كثيرة دون أن تشعرنا إنك تأتي شيئا عجبا. والحق أن قصتك فريدة عميقة الثقافة لا تستبله القارئ ولا تستدعي بهتته ولا محبته ولا تطلب منه أن يتأثر. ليس هو زوجة مخدوعة ولا حبيبة خائنة ولا أما مسكينة. بل هو سكين صدئة تقطع لحم الضوء البارد. نعم، سكين صدئة تقطع لحم الضوء البارد.. كم أحببت الترديد والتكرار والإعادة في أقاصيصك. هذه هي فضة الكتاب السائلة. تكرر فلا نشعر بالتكرار. يحملنا الصوت بعيدا، إلى العمق، إلى حيث ترقد الأفكار عارية على أسرتها، إلى حيث لا يدخل إلا العارف. مهتم أنا بكتابة نص عارف، نص لا يحاول أن يبدو مدهشا بل ينسحق تحت غيمة الإدهاش المذهلة. نص لا يقدم لقارة الفهم العمياء. نص لا ينشغل كثيرا بالتلقي بل يهبط مصهودا بنيران العزلة مقصيا من فضاءات العادة مدهشا وملغزا ومحيرا.. كل ذلك وجدته في كتابتك وخاصة القدرة على الإدهاش والمغايرة والعبث بالمستقر والجاهز ونحت ثقلك الخاص من حجر الخفة، خفة الكائن التي لا تحتمل. قرأت كتابيك دفعة واحدة بعد عودتي من العمل. لم أتوقف إلا لأنفذ اقتراحاتك المذهلة. عشت للحظات، وأنا القارئ الذي لا يحترم التوجيهات، منفذا. استبدلت موسيقى الغرف. اقترحت موسيقات أخرى من نفس العائلة. وتمثلت عالمك يا صديقي. هذا العالم الذي يملؤه الفن في الظاهر أما في العمق فشاهدت وشاهدت وشاهدت. غابات انفتحت تحت مشهد الخضرة البراني. لست واقعيا دون شك وإن بدا الواقع مرميا كجثة في كل المشاهد. لست واقعيا وإن لمحنا سلما للصعود وحجرة للنوم ورصاصة في الصدر. لست واقعيا وإن أحسسنا بالدم يملأ وجه العالم. إذن ما أنا؟ وما أنت؟ نحن صوتان قلقان لا يعجبنا العجب ولا البرقوق في رجب. نطلب شيئا ليس عصيا: كتابة تليق بمنزلة الكائن. نطلب كتابة تحتفي بغابة الحروف الصغيرة لتطرح ثمر إغوائها الفاتن. نرغب في القطع مع حساسية الحنين والاجترار والأخذ من كل شيء بطرف والترقيع والتقليد والنسج على منوال والسير على نهج القدامى. تعبنا وقلنا ذلك. مللنا وقلنا ذلك. وها نحن نبحث ونقرأ ونحذف وننقح ونغير ونقوم بشيء يتطلب عملا لا ينتهي. يا أنيس يا صديقي أنا سعيد جدا بالتعرف عليك نصا وأحب أن أطل عليك إنسانا وصديقا. نتبادل الكتابة في شؤون الإبداع وغيرها. ونرمي لبعض من بعيد بجواهر الأرواح المخبأة. أرسل إليك كتابي الصادر سنة 2006 كتاب الحب وفيه أقترح عليك أن ترى كتاب الصور للرسام التونسي المعروف الهادي العابد.