إبراهيم بن محمد أبانمي، مبدع سعودي من مواليد الرياض عام 1401ه. أستاذ في كلية اللغة العربية بجامعة الإمام، صدر له: (مقالات حارس التراث أبي فهر محمود محمد شاكر - دراسة)، وإصداره الأخير عن نادي الرياض الأدبي بعنوان (عشب يتفيأ ظلاله)، ثقافة اليوم حاورته عن تجربته الكتابية وإصداره الأخير. @ الكاتب إبراهيم أبانمي، لماذا يواجه من يقرؤك بحيرة التصنيف لشكل نصوصك ونسقها الإبداعي؟ - مشكلة تصنيف النص ليست في المقام الأول مشكلة من مشكلات التلقي، بل هي مشكلة كتابة وإنشاء، لأن الكاتب بسبب هذا التجنيس الذي اعتاده يكون مقيداً قبل الكتابة بحدود وقواعد يتوهمها ولا يدري أنه قادر على قفزها وتغيير مساراتها وتوسيعها وتضييقها، فيظل يدور في إطارات مغلقة يرتطم بجدرانها، إنها إطارات الأجناس الإبداعية المعروفة التي ترسخت أصولها، والفن إذا انطلق من قواعد راسخة يجد نفسه ولا بد منجذباً لشيء من التقليدية، لست أدعو طبعاً لنسف الأجناس أو ما يسميه بعضهم النصوصية، ولكني أدعو الأديب أن يتبع ذاته وقلمه لا أن يتبع قواعد فرضت عليه ولا يدري أنها تقيده، إن الانعتاق من وهم ثبات قواعد الجنس وحدوده هو الخطوة الأولى لإثراء الأجناس القائمة وابتكار أجناس أخرى، وهو الخطوة الأولى إلى ابتكار أدب حي يستخدم فيه الأديب أدواته التي اخترعها بنفسه لينشئ بيته الأدبي الخاص الذي يكنه ولا يكن غيره، لا أخفيك أستاذة هدى أنني ترددت كثيرا قبل إصدار هذه المجموعة - ومسؤولو النشر في النادي يعرفون هذا! - وسبب ترددي أن المجتمع الأدبي ألف التجنيس، وأصبح ينطلق في القراء باحثاً عن الجنس لكي يتلمس طريقه، ولذلك لم أتعجب حين قال لي صديقي: (كتابك جميل ولكني لا أسميه شعراً) فقلت له: (ولا أنا) لكنه لم يصدقني إلى اليوم؛ يظن أنني أدفع عن نفسي تهمة قصيدة النثر!! وأمارس أسلوب التقية!، إنني أسمي عقلية مثل هذا المتلقي ب (عقلية المسطرة) إذ يمتلك في درج رأسه أو درج ذائقته أربع مساطر أو خمس ويقيس كل النصوص عليها. وهكذا أزعم أن المبالغة في التجنيس تقتل الأدب قبل إنشائه وتقتله عند تلقيه، وليست هذه الحدة في التجنيس والتقسيم بغريبة على تراثنا في التلقي والإنشاء؛ ألم تكن أغراض الشعر خمسة فقط؟!. ولعلي بعد هذا الحديث قد ورطت نفسي في نرجسية مفرطة وزعمت بأني المبدع الخلاق القادر على الانعتاق من سطوج الجنس، أعذريني ولكنني كنت أصف حالة ثقافية عامة ولا أتحدث عن مجموعتي الصغيرة بحال، إنك إن تسأليني عن تجنيسي لهذه المجموعة أجبك: إنها شيء من كل الأجناس شيء من كل قراءاتي، شيء من الكلمات الموجزة العربية القديمة شيء من جنس (الحكمة)، شيء مما يسمى (الشذرات)، شيء مما ارتضى أحدهم تسميته ب (المنمنمات)، شيء من (القصة القصيرة جدا) شيء من (القصائد القصيرة) شيء كنت أرتضي أن أسميه (مخوطرات) إنه شيء من الكتابة وحسب، شيء نعرفه جميعا ولكني تجرأت فجعلته (كتاباً) ولعل هذه حسنتي الوحيدة أو سيئتي. وكم قلت لأصحابي: (سموه ما شئتم واستمتعوا به)، إن حياتنا هي حياة الوجبات السريعة والثقافة البصرية واللهاث خلف كل شيء، لم يعد الوقت كافياً لأن يجلس القارئ على أريكته بجانب نافذته ويقرأ القصائد الطوال، ويستمتع بالروايات الملحمية ك (الحرب والسلم) مثلاً، ولذلك ليس عجيباً أن نجد عصرنا قد خلق أدبه السريع الموجز المشاكل له، لا تسأليني ... أسألي العصر فهو الذين فعل هذا. @ صنفت مكتبة الملك فهد الوطنية كتابك في (الوصايا والحكم) كيف رأيت تصنيفها؟ وما اقتراحك على المكتبات ودور الطباعة والنشر والتوزيع والمؤسسات المعنية بحركة النشر بشكل عام لدى تصنيفها مؤلفات إبداعية غير مألوفة بالنسبة لخبرتها في الفهرسة والتقنية المعلوماتية المكتبية؟ - تصنيف مكتبة الملك فهد تصنيف مؤلم لي وللنصوص، وهو نتاج تلك العقلية التي لا تكاد ترى الكتابة إلا تابعة لعائلة و(بنت أصول)، المفترض أن تستعين المكتبة بالمؤلف نفسه أو بمهتم بالشأن الأدبي حين تحتار في نسبه شيء ما، خاصة أن الأدب ديناميكي بطبيعته، وأتنبأ أن المكتبة ستواجه بالكثير من العثرات في المستقبل، وإن كان ولا بد من تجنيس جاهز لل (بدون)! أو لغير المنتمين إلى جنسية!، فليضعوا تصنيفاً تحت اسم (نصوص) يضم إلى جناحه كل مقطوعي النسب. @ (عشب يتفيأ ظلاله) يعد إصدارك الأول. هل ستواصل تجربتك الإبداعية الثانية أم ستتجه بإبداعك إلى ضفة أخرى لفن مألوف؟ وما الصعوبات التي واجهتك وأنت تغير شكل كتابتك الإبداعية؟ ولماذا؟ وكيف يمكن دعم المبدع السعودي وتشجيعه على الإنتاج الفكري والتواصل في انجاز مشروعه الإبداعي وتحفيزه على طباعته ونشره؟. - لا أخفيك أن نصوص هذه المجموعة كانت نتيجة اندهاش بنص قصير هو: (نحن أخوة.. مثل هابيل وقابيل) إنه نص من فن الهايكو الياباني ألقاه على استاذي د. عبدالعزيز الزير، كما أنها نتيجة استمتاع بفن (القصة القصيرة جداً) الذي ظهر بقوة في مجتمعنا الأدبي قبل أكثر من 6سنوات وما زال إلى اليوم، في تلك الأيام أي عام 1423ه كنت أكتب هذه النصوص بكثرة ثم تباطأت كتابتي شيئاً فشيئاً حتى توقفت.. لعل ذلك مردود إلى زوال تلك الدهشة الأولية، والمتعة اللغوية خاصة مع عدم النشر والتفاعل، والحقيقة أن بعض أصدقائي دفعوني دفعاً إلى انتقاء بعض النصوص ونشرها، فتشجعت، ثم لقيت المجموعة أصداء لا بأس بها وقد تعيدني تلك الأصداء إلى الكتابة مرة أخرى بالطريقة ذاتها. كما أنني أكتب الشعر أو ما أسميه شعراً!، وأعتقد أنه هو إصداري القادم ولعل مصادفة سعيدة تخرجه إلى النور كما خرج العشب!. أما القصة فقد فشلت في كتابتها وحتى لو نجحت فلن أنشرها! في هذه المرحلة على الأقل لأن القص إما أن يكون عظيماً وإما أن يكون تافهاً ولا توجد منطقة رمادية كما أزعم. ولا أظن أي كاتب ستواجهه صعوبات كتابية إلا إذا أجبر نفسه على جنس ليس مهيأ لكتابته، وحينها فهو من الأخسرين أعمالاً!، لأنه سيتعب أكثر من المبدع الحقيقي ثم سيفشل حتماً.. ليتبع الكاتب قلمه فحسب وإبداعه فحسب وسينجح، كل الذين نجحوا في الكتابة وصفوا الكتابة بأنها متعتهم وأنسهم، لذلك إذا واجهتني صعوبات كتابية فسأتوقف عما أكتب مباشرة!، أما الصعوبات غير الكتابية التي تتعلق بقتل المبدع أو تحفيزه فهي مسؤولية الجهات الرسمية، ومسؤولية المجتمع الثقافي ومسؤولية المبدع نفسه، ربما تتخلى الجهتان الأوليتان عن مسؤوليتهما ولكن هذا ليس عذراً، فالكتابة أسمى من أن يوقفها شيء، ولولا المعاناة والتجارب لما كانت الكتابة، وأي كاتب يصفق كفاً بكف إذا واجهته العقبات لا يستحق أن يكون كاتباً. @ تركت فراغاً أبيضا في كل صحفة من صفحات كتابك تقريباً وهو فراغ لا حروف للغته ولا ترجمة لطابور نقاطه المتصافة على السطور، تكرارك لعبتك يوحي بممارستك المتعمدة لها، فما الغاية التي أردت قراءة الخيال والعبث بمضمونها الفكري ومدلولها الذهني؟ هل أردت من ذلك إشراك القارئ في تأليف تأويل نصك؟ وما هو القاسم المشترك لنصوصك التي تختفي وراء فراغها وإلى أي حد يمكن أن يتمتع المتلقي بقدرته الفردية للتنبؤ بالمعنى الإبداعي وكيف ترى الرأي الذي يرى أنه نتيجة لالتباس الوعي حول شكلك الإبداعي وندرة الإطلاع على تجارب من نوعه ما يحاط به من غموض لا يليق بسعي مبدعه إلى الحضور في وعي متلقيه واستقراء تجربة كاتبها، هل كان اخراجك الجريء وفلسفتك الفراغ كفكرة لا تقرأ دائماً بل ربما تقاس وتؤول بخصوصية بحتة، أم كان لعبة بصرية؟ أم ماذا؟ - الأدب الحديث يشرك القارئ في بناء المعنى ولا يعطيه المنتج جاهزاً، والقارئ يستمتع بهذه اللعبة ويراها احتراماً له، - أو هذه وجهة نظري بوصفي قارئاً -، إننا نتلذذ بهذا التخليق، والبناء والهدم، وتنسيق حديقة النص مع مؤلفه، إنها لعبة تشبه لعبة المكعبات الطفولية، وكلما اكتشف الملتقى شيئاً كامناً أو غامضاً أو كلما وقع على معنى متوار أو كلما اكتشف رمزاً مختبئاً كلما فعل هذا حرك رأسه بغرور وابتسم ابتسامة الظفر، لأنه بهذا يثبت لنفسه أنه يستطيع الاكتشاف ويستطيع القراءة ويستطيع البناء والتخليق، إنه يستطيع ما لا يستطيعه الآخرون، وعلى الكاتب ألا يحرم قارئه من هذه اللذة، إن ذلك على الأقل احترام للقارئ وقدرته، ومشاركة تخليقية معه، كما أن القارئ يكره الكاتب الذي يعد المتلقي غبياً ويعيد عليه المعنى ويؤكده ويفصل فيه وكأنه تلميذ في مدرسته، القارئ أذكى من الكاتب فليعامل عقله باحترام لكي يبقى معه. ولا أخفيك أن بعض الحذف قد يكون لأسباب أخرى، منها الخوف من المقص! إقرئي مثلاً: (السلام عليكم يا... العرب/ السلام عليكم دار قوم مؤمنين) ثم إن الحذف في النهاية تكريس لما زعمته في عنوان المجموعة (عُشب يتفيأ ظلاله)، ولست أظنه إخراجاً جريئاً كما وصفتيه مشكورة فقد أصبح الحذف و(المسكوت عنه) واستخدام علامات الترقيم في بناء المعنى من أهم خصائص النص الحديث. @ استعملت ضمير المتكلمين (نا) كثيراً، بماذا تفسر ذلك؟ - تفاجأت بالسؤال.. إذ لم أكن أدري عن ذلك حتى اقتنصتيه أنت!، ربما يكون عندي تعليل لذلك، ولكني سأقول متهكماً! إنه يدل على اهتمامي بالآخرين أكثر من ذاتي!، وعلى حبي للعمل الجمعي!، وعلى خلق الإيثار!!، طبعاً أقولها مازحاً منتظراص تحليل المتلقي واستنتاجاته. @ كيف تنظر إلى من ينادي بالأبوة الأدبية/ الإبداعية في هذه المرحلة التي تعيشها ساحتنا الإبداعية والثقافية؟ ولماذا؟ - أعطيني أديباً كبيراً له أب أدبي وسأبحث لي عن أب وأعمام!!. الأدب الجيد سيترفع رأسه من بين الجميع حتماً، وسيراه الآخرون لأنه أكبر من أن يتجاهلوه، أما الأدب الضعيف فلن يفيده أن يرفعه أبوه ليرى العالم لأنه حتماً سينزله إذا تبرم منه وحينها لن يرى إلا أفقية الآخرين. طبعاً لست أزعم إني نسيج وحدي فقد استفدت من عشرات الآباء والأدباء، ولكنهم في النهاية يعطونني كل ما يستطيعون إلا حملي على أكتافهم، ولذلك أنا سأحاول أن أكون شيئاً، وأعرف أنه لن يساعدني أحد كما لن يضرني أحد، إن كان أدبي خاملاً فالأفضل أن يستر نفسه بنفسه ويتوارى في زحمة النصوص لا أن يبرزه أبي ليشمت بي الجميع وأكون أضحوكة، وإن كان جيداً فسوف يصل الآن أو بعد حين.. المهم أنه سيصل. @ أي القراءات تستميلك أكثر من سواها؟ ولماذا؟ وما تقييمك لتجربة المبدعين المحليين الذين تنتمي إلى جيلهم؟ وما توقعاتك لمستقبلهم الإبداعي؟ - في المجال الإبداعي أميل إلى قراءة الرواية ثم الشعر، ولكن الدراسة العملية أبعدتني عنهما إلى قراءات لا أشربها متلذذاً كما أفعل مع كؤوس الأدب، أما تجربة جيلي فهي تجربة تحمل كل شيء.. كل التناقضات... منتهى الجودة ومنتهى الرداءة، ولكن إنجازنا الأهم اليوم هو زوال رهبة الكتاب، أصبح الكل يكتب وينشر، والمتلقي يميز الجيد من الرديء.. المؤكد أن هذا الحراك الكتابي سيفرز أدباء عظماء، صحيح أننا شقينا بكتابات تافهة لا تقيم اللغة وهي الحد الأدنى المطلوب من الكاتب، كما أن بعضها تنازل عن مبادئ كان عليه ألا يتنازل عنها وحاول الوصول إلى الشهرة مع الطريق السريع المبتذل مطبقاً مبدأ الأعرابي الذي بال جوار الكعبة وقال: (أردت أن أذكر ولو بلعنة)، ولكني رغم ذلك لا أعاديها لأن من حق الجميع أن يكتب، ومن حقنا أن نقبل أو نرفض بل ونلقي البيض والكعك في وجوه الفاسدين وعلى رؤوسهم!، المشكلة أن مجتمعنا عموماً والمجتمع الثقافي خصوصاً لم يعتد هذا الزخم الكتابي، وأنا أراه ظاهرة صحية ففي الرواية مثلاً أصبح عندنا مختلف أنواع الروايات المتميزة، وعندنا روايات تافهة أصنفها ب 1روايات الجيب) ما المشكلة؟!، أما الشعر فقد انعتق الشعراء الشباب من عقدتين كانتا حاجزاً بينهم وبين الإبداع، عقدة تقليد التراث، وعقدة أدونيس ودرويش، لذلك بدأت أصواتنا الخاصة بالبروز.. أصواتنا ذات النغم السعودي والبحة المميزة لنا، أنا متفائل لكل ما ذكرت بمستقبل أفضل، متفائل بأننا سنلعب دوراً ريادياً في عالمنا العربي البئيس، نحتاج فقط إلى الوقت.