وصلت في ما مضى من جولاتي إلى ما لا يقل عن عشرة مواقع مجسرة بنوع من الجسور المعلقة على أوتاد طويلة التفت حولها أعشاب الأنهار، واخترقت ظلالها أبلام الخوزيين والسنجريين والسراجيين، صدورا من السوابيط ورودا إلى الشرائع، وارتبطت ذكرى عبورها بإنشاد أغنية مدرسية طفولية تخاطب قاربا ورقيا منحدرا في جدول عشبي ضحل: «أيها النهر لا تسر، وانتظرني لأتبعك». كنت أمسك بأنشودتي عندما ظهر (لقلق) معلم مدرستي الابتدائية في الطرف الآخر من الجسر، يحمل في كفه الرخوة منجلا وأخذ يقطع عقد الحبال التي تربط أوتاد الجسر بسقفه المجدول من حزم الأغصان المتراصفة. كانت لمعلمنا ذراع أقصر من الأخرى، ذراع طويلة تنتهي بمعصم رخو يسهل حركة الكف ذات المخالب المعقوفة في كل الاتجاهات. وذراع قصيرة لا تمتد إلا شبرا أسفل المرفق، كانت مهمتها رفعه أشبارا فوق منضدة الواجبات المدرسية في صدر غرفة الصف، كي ينوش خطافها الطويل أحد التنابلة في نهاية الغرفة، مع صرخة اللقلق الجوفاء: «أ نوم في رائعة النهار أيها التنبل الصغير؟». امتدت الكف بالمنجل إلى أقوى عروة في الجسر، فتناثرت أغصانه مثل ماكيت متحفي مصغر، وهويت إلى منخفض النهر. رأيت معلمي يحوم حولي ملقلقا بندائه الأجوف: «طاح الجسر! طاح الجسر!» ثم ما عتم أن التقطني بذراعه الرخوة الطويلة وطار بي فوق النخيل مثل فرخ صغير. كان هذا دورا من أدوار المعلم (لقلق) المسرحية التي ضخمها حلم من أحلامي مع أنشودة الجسر الطفلية. أعانني (لقلق) على الاشتراك في المعرض الفني السنوي للمدارس الابتدائية بصنع أنموذج من تلك الجسور الخصيبية المضفورة من أغصان الأشجار الجافة، ولا أعرف لم قوضه في الحلم بكفه الرخوة التي تحمل منجلا معقوفا قطع به حبال الجسر الخشبي المعلق. انتهى الحلم ودخلت في «المنطقة البيضاء» التي يقول خبراء الأحلام إن الحالم يتحكم عندها بأحلامه ويحرف حوادثها كيفما يرغب، وحولت معلمي من لقلق مقوض للجسور إلى طباخ قبري للقدور. هنا ظهر مطبخ للنذور على حافة مقبرة، لطالما قدت إليه الطرقيات الناذرات، وعبرت بهن الجسور المعلقة على الأوتاد الطويلة، فنلت على عملي هذا من معلمي الطباخ شهادة في فن الطبخ، بعد شهادته لي في ضفر نماذج الجسور. كنت أقف إلى جانب قزان يفور بحطب الأغصان، مشاركا معلمي أغنيات القوارب المنحدرة إلى ذيول الأنهار المتماهية بحدود المقبرة، لعل أغنياتنا تجذب الطرقيات الناذرات. أغني، وأمامي قبور صفي الابتدائي، فهذا موسم هبوب أحلامي الغاربة. بادرني معلمي الطباخ، وكانت ذراعه الطويلة ذات المعصم الرخو تخوط القزان بمغرفة خشبية طويلة المقبض، وذراعه القصيرة تطعم الموقد بشظايا الأجذال: «ما وراءك يا فتاي؟» أجبت: «لم أعثر على طرقية ضالة حتى هذه الساعة يا معلمي». قال: «اذهب وانتظر عند طرف الجسر، فقد نطعم طارقا طعامنا الدسم». أقام معلمي مطبخه على طرف المقبرة المحوطة بأعجاز نخل خاوية، وما هي إلا لمحة حتى توافدت على المقبرة راعيات في ميعة الصبا والجمال، يسقن قطيعا من الخرفان والماعز. هتف معلمي: «إنه عرسك يا فتاي. عرسك فاستعد!». انقلب الحلم في مرحلته الثالثة عائدا إلى المنطقة الرمادية الأبعد قرارا واصفرارا، واختفى الجسر والراعيات والقطيع في غشوة دخان الموقد، ثم أسفر عن اللقلق في إزار الطباخين، يغمس مغرفته في جوف القزان ويلتقف منه قحفا قاطرا بسائل عشبي عكر، يرفعه عاليا كي يلفظ بخاره وسوائله من تجاويف الصدغين والمحجرين. اصطفت القحوف الخارجة من القزان أمام الموقد في نسق متصاغر يلفه البخار، خماسي ورباعي وثلاثي وثنائي، تتقدمه جمجمة سليمة العظام، مكورة كبيضة نعامة. أشار المعلم إلى الجمجمة البيضوية وقال: «أ تعرف هذا الرأس؟ أمعن فيه النظر». عندما ألجمني منظر الكورس المنضد في مثلث مستعد للغناء عند أول إشارة من ذراع اللقلق الطباخ، نخسني هذا في خاصرتي قائلا: «هذا قحف تنبل الصف. لكنه سيقود اليوم هجوم الرؤوس». بدأت الأغنية مثل هسهسة المطر على السعف، ثم تعالت وانهمرت مثل شلال النهر، وما إن سكتت الأغنية حتى ظهر قطيع الأغنام والماعز تقوده الراعيات الجميلات. تلك هي أغنيتي، وأنا معلمها.