بالإضافة إلى كون الجسور معابر للعربات والناس والبضائع، فهي مواطن للحب والتقاء العشاق. حيث تشتهر قسنطينة الجزائرية مثلاً بأنها مدينة الجسور. فهي تقع على صخرة من الكلس القاسي ويصعب التنقل بين ضفتيها إلا من خلال تلك المعابر المعلقة التي يبلغ عددها ثمانية. وهو الأمر الذي جعل أحلام مستغانمي تحتفي بتلك التحف الفنية في أعمالها الروائية وتعيد توطينها في الوجدان الشعبي. الجسور مطلات جمالية تتزين بها المدن وتباهي بها. ولذلك لا تذكر مدينة سان فرانسيسكو إلا ويذكر جسر البوابة الذهبية الذي يعبر مضيق الغولدن غيت الكاليفورني، ويعتبر رمزها الأبرز. فهو أعجوبة من عجائب العصر الحديث. حيث يحتل مكانة في الثقافة الشعبية. كما ظهر في عدد هائل من الأعمال الفنية والأدبية والسينمائية. والمؤسف أن هذا الجسر الذي كلف أموالاً طائلة، وعول عليه الناس في السعودية والبحرين آمالاً عريضة لم يؤسس لذاكرته الجمالية بعد، فقد ارتبط في الوجدان الشعبي بالازدحام، وعطلة أجهزة الكمبيوتر، وتكدس العابرين، والحوادث المرورية. وإلى اليوم لم يتمكن هذا الجسر الحيوي من اقتحام عوالم الفن والأدب ومن واقع تلك الجمالية الفائضة ترتبط الجسور في أذهان الناس بروعة الفن المعماري، وما يتداعى عن ذلك المطل من أجواء رومانسية. وهذا هو ما يفسر حضور الجسور في الأغاني سواء كانت صغيرة تربط بين معابر القرى أو هائلة كتلك التي تلتقي بها المدن. إذ لا يمكن نسيان (جسر اللوزية) التي غنته فيروز (على جسر اللوزية تحت أوراق الفيّه). كما لا يمكن مسح (جسر المسيب) من الذاكرة الذي يربط ضفتي مدينة المسيب المشطورة بنهر الفرات. الذي تم تخليده بالأغنية المشهورة التي غناها يوسف عمر وناظم الغزالي وغيرهما (على جسر المسيب سيبوني). الجسر ليس مجرد بناء من الكونكريت والحديد، بل هو نسيج من العواطف والذكريات. ففي الفصل الأول من كتابه (رأيت رام الله) يتحدث مريد البرغوثي عن جسر شهير جداً متعدد المسميات التي تحيل إلى وجدانيات ومعتقدات. حيث تسميه فيروز، حسب قوله (جسر العودة. والأردنيون يسمونه جسر الملك حسين. والسلطة الفلسطينية تسميه معبر الكرامة. عامة الناس وسائقو الباصات والتاكسى يسمونه جسر اللنبي). أما أمه وجدته وأبوه وامرأته (فيسمونه ببساطة الجسر). وبشاعرية متمادية يصف البرغوثي علاقته الحزينة مع ذلك الجسر الذي أسس ذكرياته. حيث خرج للدراسة ظناً منه أنه سيعود من خلاله بعد استكمال دراسته، ولكنه لم يعد. وكأن ذلك الجسر ليس سوى قنطرة للخروج وليس للعودة (ها أنا أقطع نهر الأردن. أسمع طقطقة الخشب تحت قدمي… أمشي باتجاه الغرب مشية عادية، ورائي العالم، وأمامي عالمي. آخر ما أتذكره من هذا الجسر أنني عبرته في طريقي من رام الله إلى عمان قبل ثلاثين سنة). هكذا ترتبط الجسور بعواطف الناس وتؤسس لذكرياتهم. ومهما كانت تلك الذكريات أليمة إلا أنها تظل في الإطار الرومانسي والإحساس الحالم بالحياة. إلا أن بعض الجسور لا تترك في وجدان الناس إلا الأوجاع والمنغصات. فحين افتتح جسر الملك فهد الذي يربط السعودية بالبحرين رسمياً عام 1986م أنشد المرحوم غازي القصيبي احتفاءً بالجسر والمناسبة قصيدته التاريخية (ضرب من العشق أم درب من الحجر). وكان يؤمل أن يكون هذا المعبر خزاناً للذكريات الجميلة ككل الجسور. والمؤسف أن هذا الجسر الذي كلف أموالاً طائلة، وعول عليه الناس في السعودية والبحرين آمالاً عريضة لم يؤسس لذاكرته الجمالية بعد، فقد ارتبط في الوجدان الشعبي بالازدحام، وعطلة أجهزة الكمبيوتر، وتكدس العابرين، والحوادث المرورية. وإلى اليوم لم يتمكن هذا الجسر الحيوي من اقتحام عوالم الفن والأدب. وكأنه مجرد بناء من الخرسانة الخرساء. [email protected]