كتب الأستاذ إبراهيم البليهي مقالا قبل أشهر بعنوان (ريادة تأسيس الفكر العلمي.. قوبلت بالرفض العنيف). والمقال يحاول أن يبرهن على فساد المقولة التي تنص على أن التقدم سنة الحياة. بل إن الكاتب يصر على العكس وهو أن «الجمود والتخلف هما سنة الحياة». وفي الحقيقة أن البليهي غلا في محاججته.. وغلا أكثر في إعطاء الأفراد العباقرة أو الرواد مكانة عظيمة في تحديد مسار التطور التاريخي للبشرية، بل إن هذه المغالاة هي ما دفعته لرفض مقولة التقدم. ويبدو لي أن البليهي من أولئك المفكرين الذين يراهنون على فكرة «البطل» أو العبقري المخلّص. وهي فكرة اشتهر بها توماس كارليل صاحب كتاب الأبطال، لهذه الفكرة في العلوم الاجتماعية والسياسية روادها ومن أبرزهم روبرت ميشيلز صاحب كتاب «القانون الحديدي للأوليغارشية» (أي حكم القلة أو النخبة)، وجيتانو موسكا وتوماس داي الذي كان له موقف متحفظ من الديمقراطية بوصفها حكم الشعب وأخيرا فيلسوف النخبة: فلفريدو باريتو وهو فيلسوف اجتماع إيطالي كانت أفكاره ومن معه وثيقة النسب بالتيارات الفاشستية والمستبدة. ورغم أني أوافق هذا الفريق في فكرة أن الغوغاء لا يجب أن تحكم، لكن الغوغاء (الجمهور الأصم) شيء مختلف جذريا عن مفهوم الشعب.. فالأخير ينطلق في مطالبه من الحاجات الأساسية وليس من الوعي الآيديولوجي الشعاراتي المزيف. ولا يمكن تجاهل الشعب بوصفه الركيزة الأساسية للنظام الديمقراطي التمثيلي. وفكرة البطل بكل حال تتناقض مع فكرة الديمقراطية الشعبية. وهذا يفسر لم يكره نيتشه (وهو أحد القائلين بفكرة البطل رغم نقده لكارليل) النظام الديمقراطي. وقل مثل ذلك على توماس داي في كتابه «المفارقة الديمقراطية». ما أود الاعتراض به على الأستاذ البليهي هو أن ثنائية التقدم والتخلف كما يفهمها نابعة من السياق السجالي العربي المعاصر وأنها غير قابلة للتطبيق على بقية الثقافات العالمية بالضرورة. وبعبارة أخرى فالتقدم والتخلف حسب البليهي فُهِمتْ بمعناها الآيديولوجي لا الأنثروبولوجي الحضاري. ففي أفق الأنثروبولوجيا التاريخية فالتقدم حقيقة ملموسة وواقعية ولا يمكن تجاهلها. فالبشر يتطورون يوما عن يوم.. وعامل الزمن يلعب دورا كبيرا. ففي كل مرحلة زمنية يضيف الحاضرون شيئا جديدا على تجارب الأقدمين.. ويضيف الآتون على تجارب الحاضرين.. وهكذا فإن التراكم الخبروي يدفع الحضارات للتطور الحتمي. فلا يمكن تجاهل التقدم في الطب والفيزياء والسياسة والأخلاق الإنسانية والتقنية بل وفي العلاقات الإنسانية والدولية. وهذه المعارف ليست إنتاج أفراد/ أبطال وحسب بل هي نتيجة للسياق التاريخي الاجتماعي الذي ظهر هؤلاء فيه. فالبطل لا يمكن أن يعيش معزولا عن سياقه التاريخي.. بل إنه لا يبدع ما لم يكن ثمة «مجتمع معرفي».. والمجتمع المعرفي هو المبدعون وهيئة التلقي التي تجعل وجود المبدعين ممكنا. وهذه الهيئة تتمثل في القراء والمكتبات والأجواء الأسرية المثقفة والجامعات والصحف والمدارس.. إلخ. والخلاصة أن الإبداع ليس مجرد نشاط فردي بل هو أيضا اجتماعي. وقد قلت إن فهم البليهي للتقدم والتخلف آيديولوجي لأنه فهم مرتبط بسياق سجالي عربي أو صراع جدالي بين الحداثة والقدامة أو الليبرالية والصحوة وهو صادق في كون المجتمعات العربية في بعض المسائل الاجتماعية المصيرية لا تزال مرتهنة للفكر الماضوي. ولكن هل هذا مبرر لوضع قانون كلي يعم البشر كلهم؟! صحيح أن المبدعين واجهوا كثيرا من الصعوبات التي أعاقت عملهم ولكنها ليست بالضرورة نابعة من «نزعة تلقائية طبيعية للتخلف» بل لها أسباب عديدة سياسية واقتصادية وشخصية. فبعض العلماء يتبنى رأيا محافظا ليضاد به رأيا لزميله المبدع.. والسبب مثلا الحسد أو المنافسة على مكانة علمية. وقد يتم رفض الجديد لأسباب مادية والأدلة واضحة على هذا. ولو درسنا الممانعات الاجتماعية للجديد لوجدنا أنها نشأت من عوامل متنوعة ومختلفة لا عامل واحد.