مدينة الأمير عبدالله بن جلوي الرياضية تستضيف ختام منافسات الدرفت    البريد السعودي يصدر طابعاً بريدياً بمناسبة اليوم العالمي للطفل    أمير الشرقية يفتتح أعمال مؤتمر الفن الإسلامي بنسخته الثانية في مركز "إثراء"    الدفاع المدني يحذر من الاقتراب من تجمعات السيول وعبور الأودية    تهديدات قانونية تلاحق نتنياهو.. ومحاكمة في قضية الرشوة    لبنان: اشتداد قصف الجنوب.. وتسارع العملية البرية في الخيام    مذكرة تفاهم بين إمارة القصيم ومحمية تركي بن عبدالله    الاتحاد يخطف صدارة «روشن»    دربي حائل يسرق الأضواء.. والفيصلي يقابل الصفا    انتفاضة جديدة في النصر    ارتفاع الصادرات السعودية غير البترولية 22.8 %    برعاية ولي العهد.. المملكة تستضيف مؤتمر الاستثمار العالمي    بركان دوكونو في إندونيسيا يقذف عمود رماد يصل إلى 3000 متر    «التراث» تفتتح الأسبوع السعودي الدولي للحِرف اليدوية بالرياض    المنتدى السعودي للإعلام يفتح باب التسجيل في جائزته السنوية    جامعة الملك عبدالعزيز تحقق المركز ال32 عالميًا    لندن تتصدر حوادث سرقات الهواتف المحمولة عالمياً    16.8 % ارتفاع صادرات السعودية غير النفطية في الربع الثالث    «العقاري»: إيداع 1.19 مليار ريال لمستفيدي «سكني» في نوفمبر    «التعليم»: السماح بنقل معلمي العقود المكانية داخل نطاق الإدارات    «الأرصاد» ل«عكاظ»: أمطار غزيرة إلى متوسطة على مناطق عدة    صفعة لتاريخ عمرو دياب.. معجب في مواجهة الهضبة «من يكسب» ؟    «الإحصاء» قرعت جرس الإنذار: 40 % ارتفاع معدلات السمنة.. و«طبيب أسرة» يحذر    5 فوائد رائعة لشاي الماتشا    في الجولة الخامسة من دوري أبطال آسيا للنخبة.. الأهلي ضيفًا على العين.. والنصر على الغرافة    في الجولة 11 من دوري يلو.. ديربي ساخن في حائل.. والنجمة يواجه الحزم    السجل العقاري: بدء تسجيل 227,778 قطعة في الشرقية    السودان.. في زمن النسيان    لبنان.. بين فيليب حبيب وهوكشتاين !    مصر: انهيار صخري ينهي حياة 5 بمحافظة الوادي الجديد    «واتساب» يغير طريقة إظهار شريط التفاعلات    اقتراحات لمرور جدة حول حالات الازدحام الخانقة    أمير نجران: القيادة حريصة على الاهتمام بقطاع التعليم    أمر ملكي بتعيين 125 عضواً بمرتبة مُلازم بالنيابة العامة    ترحيب عربي بقرار المحكمة الجنائية الصادر باعتقال نتنياهو    تحت رعاية سمو ولي العهد .. المملكة تستضيف مؤتمر الاستثمار العالمي.. تسخير التحول الرقمي والنمو المستدام بتوسيع فرص الاستثمار    محافظ جدة يطلع على خطط خدمة الاستثمار التعديني    الإنجاز الأهم وزهو التكريم    نهاية الطفرة الصينية !    أسبوع الحرف اليدوية    مايك تايسون، وشجاعة السعي وراء ما تؤمن بأنه صحيح    ال«ثريد» من جديد    الأهل والأقارب أولاً    اطلعوا على مراحل طباعة المصحف الشريف.. ضيوف برنامج خادم الحرمين للعمرة يزورون المواقع التاريخية    أمير المنطقة الشرقية يرعى ملتقى "الممارسات الوقفية 2024"    «كل البيعة خربانة»    مشاكل اللاعب السعودي!!    انطلق بلا قيود    تحت رعاية خادم الحرمين الشريفين ونيابة عنه.. أمير الرياض يفتتح فعاليات المؤتمر الدولي للتوائم الملتصقة    مسؤولة سويدية تخاف من الموز    السلفية والسلفية المعاصرة    دمتم مترابطين مثل الجسد الواحد    شفاعة ⁧‫أمير الحدود الشمالية‬⁩ تُثمر عن عتق رقبة مواطن من القصاص    أمير الرياض يكلف الغملاس محافظا للمزاحمية    اكثر من مائة رياضيا يتنافسون في بطولة بادل بجازان    محمية الأمير محمد بن سلمان تكتشف نوعاً جديداً من الخفافيش    "الحياة الفطرية" تطلق 26 كائنًا مهددًا بالانقراض في متنزه السودة    قرار التعليم رسم البسمة على محيا المعلمين والمعلمات    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



باهتمامه التلقائي علَّم نفسه ففتح لوطنه وللحضارة آفاقاً عظيمة
نشر في الرياض يوم 08 - 07 - 2012

في المسح التاريخي الشامل الذي نهض به الدكتور مايكل هارث عن أبرز المائة الأوائل الأكثر تأثيراً في الحياة الإنسانية خلال التاريخ البشري كله توصَّل إلى أن المخترع جيمس وات يأتي في المرتبة (25) فهو «الشخصية الأساسية في الثورة الصناعية فلولاه لكان الانقلاب الصناعي مختلفاً جداً عما هو عليه الآن» .
ولكن هذا التأثير العظيم الحاسم قد أضاعه وصَرَفَ أذهان الناس عنه العطبُ المزمن في الثقافات البشرية بتركيز الاهتمام والتبجيل لرجال السياسة وقادة الحرب..
إن الصراعات البشرية خلال التاريخ الإساني كله ومنذ البدء قد أدت إلى عسكرة العقل البشري وتمجيد العنف ضد المغايرين وتبجيل السفاحين والاجماع على أن الإقدام في المعارك والشجاعة في القتل هما أم الفضائل. إن توارث البشرية على اختلاف ثقافاتها لهذا الركام البشع من القيم المدمِّرة هو مصدر الخلل الفظيع الذي تعانيه الإنسانية في كل مكان
إن الغالب على التاريخ البشري أنه مستغرقٌ استغراقاً كلياً مفرطاً في تدوين تفاصيل الحروب وتبجيل الزعماء السياسيين والقادة العسكريين ويهمل المكتشفين والمخترعين والمبدعين مع أنهم هم الذين طوروا الحضارة وأمدوا الإنسانية بما تنعم به من علوم خارقة ووسائل مدهشة وإمكانات عظيمة.
إن هذا الخلل التاريخي خلق ثقافات بشرية معاقة ومتنافرة تعوق التفاهم وتمنع التقارب بين الأمم بل وحتى بين الفئات المختلفة داخل المجتمع الواحد فالاهتمام المزمن بالصراع ركَّز الانتباه البشري على عوامل التنافر وأسباب القطيعة وأدام الاتجاهات العدوانية المتوترة والمتحفزة فاستمر الناس من كل الأجيال في جميع الأمم يتبرمجون باهتمامات مدمِّرة تتعارض مع مصالحهم ومع المصلحة الإنسانية.
إن هذا الخلل الوبيل في التنشئة يستبقي عقلية الصراع جاهزة ومتأججة وينمي أيديولوجيات التنافر والعنف ويتجاهل التفكير العلمي ويحول دون تكوين رؤى موضوعية لدى الثقافات، ويستبقيها كيانات متمايزة ومتدابرة ومنغلقة ويستبعد تأثير العلوم الممحَّصة في الذهنية الفردية والاجتماعية والبشرية ويُديم الصدام وعسكرة العقل الإنساني...
ولقد آن الأوان لتحرير العقل البشري من هذا الخلل التكويني الفظيع المزمن فإصلاح الإنسانية هو بإصلاح اهتمامات الناس التلقائية: نوعاً واتجاهاً وامتداداً وعمقاً فالإنسان ما هو إلا نتاج اهتماماته التلقائية وهي اهتمامات يتشرَّبها الأفراد ويتبرمجون بها من البيئة تلقائياً، وتتفاوت أوضاع الأمم بقدر تفاوتها في أنواع الاهتمامات التلقائية ولكن أكثر الناس لا يدركون هذه الحقيقة الأساسية فيتوهمون أنهم قد اختاروا اهتماماتهم بمحض العقل الواعي غير المشروط وهذا هو الوهم الأصعب فهم يعتادونها تلقائياً ويتبرمجون بها فتصبح أسلوب حياة وطريقة تفكير، فالثقافات كيانات مصمتة متمايزة غير قابلة للتزاوج والتلاقح التلقائي فلا يحصل التأثر الايجابي بينها بمجرد التلاقي بل لابد من عمليات تلقيح صعبة ودقيقة ومنتظمة ومزلزلة فجهاز المناعة الثقافية جاهزٌ ومتحفز لرفض ولفظ ومقاومة أي فكر غريب فالثقافات تختلف بنياتها بقدر اختلافها في القيم ومن القيم تنساب الاهتمامات فهناك اهتمامات تستهدف الانطلاق في الآفاق وهناك اهتمامات تكرس الانغلاق فالنتائج تتحدد بأنواع واتجاهات الاهتمامات السائدة في المجتمع..
إن القدرات الفردية والاجتماعية كلها مكتسبة فالإنسان بما ينضاف إليه وما يتبرمج به فهو يولد بقابليات فارغة وليس بقدرات جاهزة فيتشرَّب أفراد كل مجتمع الاهتمامات السائدة فيه ويتبرمجون بها ويبقون مأسورين بهذه الاهتمامات من دون أن يفطنوا إلى أنهم مأسورون فيتوهمون أنهم قد اختاروا اهتماماتهم بمحض العقل والإرادة، ويغفلون عن حقيقة أنهم قد تبرمجوا بها تبرمجاً تلقائياً.
إن أغلب الناس لا يدركون تلقائية تشرُّبهم للاهتمامات التي تستهلك طاقتهم الذهنية والعاطفية وبذلك يخسرون خسارة مزدوجة فقابلياتهم العظيمة التي تتكوَّن بها ذواتهم لا تبقى فقط غير مستثمرة بل تظل مدفوعة ومستنزفة في اتجاه خاطئ وحينئذ فإن الإشكال يكون أكثر تعقيداً لأن الخسارة تأتي مضاعفة فالقابليات لا تبقى فارغة ومعطلة وإنما تسير في اتجاه يتعاكس مع متطلبات التنمية ويتعارض مع مصلحة الأفراد ويتضاد مع الأنسنة ويعرقل عالمية الحضارة فتمتلئ القابليات تلقائياً بخليط متنافر يصيبها بالشلل أو يصرفها عن مجال البناء إلى مجال الهدم فيقضي على الوعد العظيم ويحيل الإمكان الايجابي إلى نتاج سلبي...
إن قابليات الإنسان إذا سلمتْ من الإفساد تتيح له أن يطور ذاته إلى أقصى المدى فيكتسب معارف دقيقة ومهارات عالية وأخلاقاً مضيئة لتتحول إلى قدرات خارقة كما هي حال جيمس وات وأمثاله من ذوي الاهتمام القوي المستغرق ممن أسدوا للبشرية خيرات عظيمة ويمكن أن تتضاعف الخيرات لو أحسنت الشعوب تنشئة أجيالها لأنَّ التكوين المنظَّم للقدرات الفردية الخارقة يمثل نقلة نوعية في بناء الذات بعد تحريرها مما تبرمجت به تلقائياً فالتكوين المتجاوز للتلقائية لا يتحقق إلا إذا تعهَّد المرء نفسه بالتعبئة المختارة الممحَّصة المنتظمة وهذا يتطلب أن يتخلَّق في ذاته اهتمام قوي مستغرق بهذه التعبئة، وأن يكون هذا الاستغراق ناتجاً عن شغف ذاتي تلقائي حقيقي بما يراد تعبئة الذات به وأن يصاحب العملية وعي مُشرق بالمهمة وإدراك عميق للنتائج المطلوبة فلابد أن يتدفق هذا الاهتمام من أعماق الذات بدافع داخلي ذاتي تلقائي...
إن اختلاف الاهتمامات سواء بين الأفراد أو بين الأمم في المضمون والاتجاه والكثافة والامتداد والعمق والتلقائي هو مصدر التفاوت الشديد الذي نلحظه بين الأفراد وبين المجتمعات لذلك فإن رفع مستويات الأفراد وتصحيح أوضاع المجتمعات لا يمكن أن يتحقق إلا بعد تغيير الاهتمامات: نوعاً وكثافة وعمقاً وامتداداً أما دفع الأجيال لحفظ المعلومات في المدارس والجامعات فلا ينتج عنه سوى ضياع الأعمار وتجميد الطاقات وصرف أذهان الملايين عن فرص استثمار ما يملكون من قابليات كانت مهيأة لأنْ تفتح لهم آفاقاً مثيرة ومثمرة...
ولأن العقل يحتله الأسبق إليه وأن الاهتمامات التلقائية المتوارثة هي الأسبق دائماً إلى العقل البشري فإن العقول في كل الثقافات تبقى تتوارث اهتمامات الأسلاف فتظل غارقة بالماضي بأشخاصه وحروبه ومفاخره وأوهامه وجهالاته وفي خاطئ تصوراته وبذلك تستمر العقول منشغلة في اهتمامات تهدم ولا تبني، وتُفرِّق ولا تجمع وتُعمِّق الجهل المركَّب المغتبط به فما أكثر الضياع في الحياة البشرية بل ما أكثر السير في الاتجاه الخاطئ والاستغراق في ما هو ضار ومربك ومعطل ومستهلك للاهتمام في غير المجال الصحيح فالأمم مستغرقة في استعادة وقائع الحروب وتذكُّر الصراعات والافتخار بما تعتبرها انتصارات مع أنها فواجع لآخرين وتُهمل الصفحات المضيئة لرواد التقدم الحضاري وصانعي سلالم الارتقاء الإنساني فإذا كان تاريخ الحروب المدمرة والعدوان الفظيع والنزاعات الدموية والتحريض الايديولوجي قائماً على اختلاق الوقائع وتضخيم الانتصارات وإخفاء الهزائم وتعميق الأحقاد ونشر التنافر والتباهي بالذات وتكريس الانتفاش وقولبة الأفراد: عقولاً وعواطف بهذا الهراء فإن تاريخ الإبداع مازال مهملاً أو مهمَّشاً مع أنه هو التاريخ ا لإنساني الحقيقي الذي يستحق الاحتفاء والتبجيل والاحتذاء لتحتشد به العقول وتتوقد به العواطف لأنه يرتقي بالإنسانية ويقوم على الحقائق الناصعة فهو تاريخ أفراد لا يملكون أية سلطة يزيفون بها الوقائع وإنما لا يحتفظ التاريخ لهم إلا بما شهدت به انجازاتهم العظيمة ذاتها من دون أي تضخيم أو تلميع بل قد يضيع الكثير من حقائق كدحهم الطويل ونضالهم الشاق ولكن ما بقي يكفي لإظهار إشعاعهم الباهر غير أن طوفان التاريخ السياسي والعسكري بصراعاته المستمرة، وتاريخ الحروب الايديولوجية بعنفها البشع يغمران الأجواء ويخفيان إشعاع المبدعين...
إن الصراعات البشرية خلال التاريخ الإساني كله ومنذ البدء قد أدت إلى عسكرة العقل البشري وتمجيد العنف ضد المغايرين وتبجيل السفاحين والاجماع على أن الإقدام في المعارك والشجاعة في القتل هما أم الفضائل. إن توارث البشرية على اختلاف ثقافاتها لهذا الركام البشع من القيم المدمِّرة هو مصدر الخلل الفظيع الذي تعانيه الإنسانية في كل مكان إنه الخلل التاريخي الذي استمر يتحكم بالعقول ويُفسد العواطف ويشحن النفوس بالأحقاد والمخاوف والثارات والتربُّص المتبادل فبرغم عظمة العلوم فإنها لم تؤثر كثيراً في العقل البشري إلا في المجال المهني والعملي والمادي فالناس في كل مكان ينعمون بما تنتجه العلوم والابتكارات من وسائل وأدوات وإنجازات مادية هائلة تغيرت بها الحياة البشرية تغيرات كلية أما طريقة التفكير ومنظومة القيم والاهتمامات فما زالت مأسورة بمنطق القوة والخوف المتبادل والعسكرة وهو منطق جهول وغشوم وغير إنساني وغير عقلاني إنه يغرس الغباء ويجمد القابليات الأخلاقية العليا ويعطل إمكانات التبصُّر ويبدد القدرات ويستنزف الطاقات الإنسانية في غير المجال الصحيح ومع ذلك فإنه منطق سائد في كل مكان حتى في المجتمعات المزدهرة فالعقل البشري بحاجة إلى إعادة تأسيس لتحريره من ركام منطق القوة ومنطق التغالب والعسكرة وتخليصه من اهتماماته البليدة وأوهامه الراسخة السابقة للعلوم...
إن فلاسفةً ومفكرين وعلماء كثيرين قد أدركوا عمق هذا الخلل وفداحة النتائج المترتبة عليه ففي الجزء الخامس من كتاب (تاريخ الفلسفة) يشير الفيلسوف المؤرخ إميل برهييه إلى ازدواجية التاريخ البشري كما يراه فولتير: التاريخ الرسمي الذي يتبوأ مكان الصدارة في الوثائق حيث نرى الإنسان وقد أسلس قياده لانفعالاته وأهوائه وانتقامه ومصلحته وفي المقابل يوجد تاريخ شبه مجهول وهو تاريخ الاختراعات النافعة للإنسان فمقابل الأساتذة الرسميين والجهلة هناك رجالٌ مغمورون فنانون تحركهم غريزة عليا يخترعون أشياء رائعة يأتي العلماء بعد ذلك ليجروا عليها استدلالاتهم فالمبدعون تحركهم غريزة آلية فيندفعون تلقائياً للعمل المضني والجهد الموصول حتى تتحقق الانجازات...
وفي نفس الاتجاه يذكُر العالم المصري الشهير علي مصطفى مشرفة أنه شارك في مؤتمر علمي في لندن ضمَّ نخبة من العلماء من كل الأقطار وكان الاحساس بتهميش تاريخ العلم وتاريخ الاختراع إحساساً عاماً وقوياً وقد كتب مشرفة يقول: «في هذا المؤتمر نغمة واحدة ألا وهي أن تاريخ العلوم يجب أن يعنى به العناية كلها لأن التقدم العلمي أهم بكثير للبشرية من الحروب التي يسجلها التاريخ فالعلم هو الذي أعطى المجتمع البشري جلَّ ما يملك من وسائل الحضارة والرفاهية» .
وقد أفاض مشرفة في وصف المرارة التي كان يشعر بها العلماء بسبب إهمال تاريخ العلوم والاختراعات في حين أنه يُعنى العناية كلها بتاريخ السياسيين وقادة الحروب ومروجي العنف وتساءل المؤتمرون بمرارة: «أيهما كان أعظم أثراً في تطور البشرية حروب نابليون أم اختراع جيمس وات للآلة البخارية؟!!» هكذا نخبة من علماء الدنيا كانوا قد توافدوا إلى لندن يعبرون عن إحساسهم القوي بفداحة الخلل في الثقافة البشرية وعن استمرار هذا الخلل الجوهري رغم كل مظاهر التقدم...
إن جيمس وات الذي اعتبره أولئك العلماء المؤتمرون مثالاً للإثمار والنفع العام والاسهام الحاسم في تطور الحضارة وتخفيف أعباء الحياة الإنسانية هو ذاته الذي كتبت عنه المؤلفة الأمريكية الشهيرة سارة بولتون في واحد من كتبها عن العصاميين الخارقين لتؤكد بأن جيمس وات في طفولته كان ضعيف البنية واهن الصحة وأن ذلك حال دون إلحاقه بالمدرسة فعلَّمته أمه مبادئ القراءة والكتابة ثم اعتمد على ذاته لتعليم نفسه فمنذ طفولته المبكرة أظهر شغفاً شديداً بالعلم والمعرفة فكان يُمضي الساعات كل يوم في تأمل الأشياء المختلفة وكان ولوعاً بقراءة القصص الخيالية كما قرأ عشرات الكتب العلمية بفهم واستيعاب لأنه يقرأ بشغف فيستمتع بما يقرأ وتتشرَّبه قابلياته بلهفة ما جعل المقروء يمتزج في ذاته المتلهفة ويصير جزءاً من عتاده الذاتي التلقائي وكان حريصاً على تطبيق ما يتعلمه فكان يصنع بالمنزل أدواته وآلاته بنفسه.
لقد كان شغفه بالعلم تلقائياً ومتأججاً فلم يكن غريباً ان يتفوق على الذين تعلموا في المدارس إنه الفرق بين التدفُّق النابع بقوة من الأعماق والاستحلاب القسري المعاق...
إن الرواد يعيشون في الغالب خارج النسق البليد السائد وهذا هو منبع ريادتهم فبقدر تحرر الفرد من الذوبان في السائد يكون متهيئاً لانجاز شيء جديد إننا نجد أن تاريخ العلم وتاريخ الفن وتاريخ الاختراع وتاريخ الابداع الإنساني في شكل عام يقدم شواهد لا حصر لها على أن المبدعين الذين هم رواد التقدم وحُداة الازدهار يسيرون منفردين خارج السرب وخارج التأطير المدرسي، إنهم يرتادون المجهول بجسارة منفكين من الانغلاق الثقافي السائد فيبقون مغمورين مجهولين إلى أن يصير إشعاعهم غامراً غير قابل للاخفاء لقد تعلموا مبكرين أن يعتمدوا على أنفسهم خارج أسوار التلقين الذي يميت الفردية ويطمس القابليات الابداعية فتحرروا من قواعد السائد وتخلصوا من قيود التدجين وانطلقوا يتخيلون الممكن الباهر ويقارنون بينه وبين الكائن البائس واستفرغوا طاقتهم بصبر لا ينفد، وعزيمة لا تكل من أجل تحقيق الممكن المفقود ليجعلوه عنصراً من الواقع المشهود وتأتي انجازات الشاب العليل الذي علَّم نفسه جيمس وات كأحد الشواهد المضيئة الباهرة فهو لم ينل أي قدر من التعليم النظامي ولكنه كان شغوفاً بالمعرفة شغفاً ملتهباً فاندفع يبني ذاته بنفسه بناء يختلف عن التلقين المدرسي الرتيب والكليل المضجر فأصبح ذلك العقل المتوقد المبدع...
ورغم استغراق أكثر الثقافات البشرية في تفاصيل تاريخ الحروب والصراعات والمفاخرة البليدة المنيمة ومع قلة المتابعين لحياة الرواد والمبدعين في المجتمعات المتخلفة إلا أن المجتمعات المزدهرة تداركت أخيراً هذا الخلل وراحت تبرز انجازات العلماء والمخترعين والمبدعين فقد تغيَّر مفهوم العظمة وتنوعت مجالات البطولة وصار المزدهرون يحتفون ببطولات العقل ومهارات الأداء وتراجع الاهتمام ببطولات الحرب بل صارت شجاعة القتل وصمة ومسبَّة وعنوان الغلظة والجلافة والتخلف والتوحُش ما أفسح صفحات التاريخ لأبطال العقل لذلك فإننا نجد ما لا حصر له من الكتب المترجمة تشيد بمجد هذا المخترع العظيم جيمس وات ففي كتابهما (آلاف السنين من الطاقة) توقف المؤلفان العالمان الروسيان كارتسيف وخازانوفسكي أمام الانجاز العظيم الذي حققه المخترع جيمس وات ليؤكدا بأن اختراعه للآلة البخارية واستمراره في تطويرها ورفع كفاءتها كان تطوراً حضارياً حاسماً ونوعياً فقد مثل وثبة هائلة في مجال الطاقة تغيرت بها مسيرة الحضارة فاستحق جيمس وات مجداً عالمياً ما جعل الاكاديميات العلمية تتسابق لتضمه لعضويتها ومنحته جامعة غلاسكو دكتوراه فخرية في العلوم..
ومع أن جيمس وات لم يبدأ من الصفر فقد مهد له المخترع توماس سافري وتوماس نيو كامن إلا أن جيمس وات أنجز تطويراً نوعياً للآلة البخارية ثم ابتكر مكثفاً منفصلاً واستمر يواصل تطوير آلته العجيبة التي حققت طفرة نوعية في القدرات البشرية ولم يكتف بهذا الانجاز العظيم الباهر وإنما وجه اهتمامه لمجالات علمية أخرى وأنشأ (الأكاديمية القمرية) وكانت هذه الاكاديمية تناقش مسائل علمية دقيقة وتقنيات حيوية وكانت النقاشات مفتوحة للجميع للاستماع والمشاركة وقامت صداقات عميقة بينه وبين رجال الفكر من أمثال مؤسس علم الاقتصاد آدم سميث فاهتمامه لم يكن محصوراً بمجال الاختراع فقط وإنما كان مثقفاً واسع الاطلاع وباحثاً دقيق البحث، كما كان متنوع الاهتمامات...
وقد كتب المبدع الرائد وولتر سكوت بعد أن حضر بعض هذه النقاشات يقول: مازلت حتى الآن كأنني أرى وأسمع كل ما حصل في تلك الأمسية التي لا تستعاد... كان وات يصغي بانتباه وبشاشة إلى كل الأسئلة ويجيب بسرعة عن كل سؤال إن عقله ومخيلته برحابتهما قد اتسعا لكل الموضوعات كان أحد العلماء الحاضرين عالماً في اللغة وآدابها فتحدث وات معه عن أصل الرموز الكتابية وكأنه عاش في زمن كادم، وكان الضيف الآخر ناقداً مشهوراً ولو استمعتم إلى حديث وات إليه لاعتقدتم أن وات قد درس الاقتصاد السياسي والآداب الرفيعة طوال حياته ولا حاجة للقول حين يتحدث عن العلوم الدقيقة فهي مجال اهتمامه الأساسي...
ورغم أنه وُلد في أسرة فقيرة متواضعة فقد جرى دفنه في مقبرة العظماء ونصبوا له تمثالاً نقشوا عليه هذا التخليد: «بعد أن استعمل قوة العبقرية الخلاقة لتطوير الآلة البخارية زاد إنتاج وطنه ووسَّع سيطرة الإنسان على الطبيعة وشغل مكاناً بارزاً بين أكثر العلماء الأماجد والأجواد الحقيقيين للإنسانية».
نشأ فقيراً وبنى لنفسه مجداً خالداً باذخاً فلم يمنعه فقره من الاهتمام بالعلم ووُلد عليلاً فلم يقعده ذلك عن مواصلة التعلم والعمل وهذا شاهد آخر من شواهد كثيرة تؤكد أن الإنسان بما ينضاف إليه، كما تنفي مقولة أو خرافة: العقل السليم في الجسم السليم فقدرات الإنسان الذهنية هي تشييد وجهد ويقظة مهما كان ضعف الجسد وكما قالت سارة بولتون: واصل جهاده صابراً على التعب والمرض والفقر حتى أصبح لعظمته وعبقريته العلمية العالمية يُعد أعجب رجل أنجبته إنجلترا..


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.