(ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر وأولئك هم المفلحون)، كثيرا ما أظل أتأمل في هذه الآية التي لا يمكن القطع بالمعنى المراد فيها (بأمة)، هل المراد جماعة من الناس يختصون بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، أم المراد أن تكون أمة المسلمين بأكملها، أمة من صفاتها الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؟ خاصة أن الله سبحانه يقول في آية أخرى: (كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله)، فهنا تبدو صفة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر صفة عامة للمؤمنين كلهم، وليست خاصة بفئة منهم دون غيرها. هناك من المفسرين من يقول إن شعيرة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر عامة تشمل كل الناس، ومنهم من يقول إنها خاصة بفئة من الناس وليست عامة للجميع. وحين تكون تلك الشعيرة خاصة بفئة دون غيرها، فإن أول ما يخطر بالبال هو التساؤل حول الصفات المطلوب توفرها في المكلفين بالقيام بها؟ فالقرآن الكريم لم يشر إلى أي صفة يختص بها المكلفون بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر سوى أن يكونوا مؤمنين، فهل كل مؤمن مكلف على الإطلاق بأداء هذه الشعيرة؟ كذلك في القرآن الكريم، لا يوجد أي تحديد أو تعريف للمعروف المطلوب الأمر به، أو المنكر المطلوب النهي عنه، وهذا أيضا يدخلنا في إبهام آخر يسوقنا إلى التفكير في شكل الفعل الذي يجب الأمر به أو النهي عنه، فأشكال المعروف كثيرة وكذلك المنكرات، فما المطلوب منا بالضبط؟ هل المطلوب أن نأمر بالمعروف وننهي عن المنكر عامة في كل شيء دون تحديد؟ أم علينا أن نختار أفعالا محددة نأمر بها وننهي عنها؟ إن هذه إشكالية ثانية تضاف إلى ما سبق، فالناس من طبيعتهم أنهم غير متفقين في نظرتهم إلى الأشياء، ومن ذلك عدم اتفاقهم على ما هو معروف وما هو منكر، فلو أخذنا ضرب الأطفال بهدف تأديبهم كمثال، سنجد بعضا منا يؤمن باستخدام الضرب أداة ناجحة للتأديب، وبعضنا الآخر ينفر من ذلك ويرى فيه إيذاء للطفل وجرحا لكرامته، فهل نصنف ضرب الأطفال ضمن المعروف الذي يؤمر به، أم نصنفه ضمن المنكر الذي ينهى عنه؟ ومثله أيضا، ابتعاث الطلاب للدراسة في الخارج، حيث يرى بعضنا في الابتعاث منكرا يعرض الشباب للعيش في وسط مجتمعات غريبة تؤثر على قيمهم وأخلاقهم وقد تهدد إيمانهم، بينما بعضنا الآخر يراه من المعروف الذي يؤمر به ويحث عليه، فالشباب حين يعيشون في مجتمعات متقدمة علميا وحضاريا يكتسبون مزايا سلوكية ويعيشون في أجواء علمية وحضارية توسع مداركهم وتمدهم بمكتسبات علمية وفكرية ما كانوا ليحصلوا عليها لو لم يبتعثوا!! ولك أن تقيس على هذا، حيث يشيع بين الناس اختلافهم على ما هو معروف وما هو منكر، فتعدد زوايا النظر إلى الأشياء تجعل اتفاق الناس على ما هو معروف وما هو منكر لا يمثل سوى جزء بسيط من أشكال السلوك، أما الجزء الأكبر منها، فإن الاختلاف عليه يظل قائما في أوسع أشكاله.