الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من أعظم أسباب النصر على الأعداء والتمكين في الأرض إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونتوب إليه ونتوكل عليه، ونثني عليه الخير كله، وهو الكريم الوهاب، ونصلي ونسلم على اشرف أنبيائه وخاتم رسله، نبينا محمد بن عبدالله: أفضل البرية: ومعلم البشرية حامل لواء الدعوة والاحتساب صلى الله عليه وسلم، وعلى آله وأصحابه أهل الفضل والحسبة، ومن تبعهم بإحسان يبتغي من الله المغفرة والرحمة، وسلم تسليمًا كثيرًا. اقترن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بالوظائف والمهام الإسلامية كافة كإمرة المسلمين المتأمل في ولاية الحسبة يجد أنها تختص بمزيد عناية بما هو خارج عن اختصاصات بقية الولايات ولاية الحسبة تتضمن الإشراف على كثير من أعمال الناس في شتى ضروب معايشهم الإجماع منعقد على أن النهي عن المنكر فرض لمن أطاقه وأمن الضرر على نفسه وعلى المسلمين أما بعد: فإن من فضل الله على البشرية أن منَّ عليها بهذه الشريعة الربانية، والمنحة الإلهية، شريعة كاملة، وللخير حاملة، وللأخلاق شاملة، وبالمعروف والصلاح آمرة، وعن المنكر والفساد ناهية. امتازت شريعتنا بخير خصال، من رحمة وشمول وكمال، فكانت نعمة في كل حال، لا شبيه لها ولا مثال، قال عز من قائل سبحانه: (اليوم أملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينًا) [المائدة: 3]. وقد جاءت هذه الشريعة بخير عميم، وأصل عظيم هو جمال كل خير، ألا وهو الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. وفي هذا الأصل المبارك - الذي فاقت به هذه الأمة سائر الأمم - يقول الله عز وجل: (كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله) [آل عمران: 110] لذا كان الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر: القطب الأعظم في الدين، والرسالة العظمى للأنبياء والمرسلين والصالحين، بل قد عده بعض أهل العلم ركنًا سادسًا من أركان الإسلام، كل ذلك لما اشتمل من الفضل العظيم، والخير العميم، والمصالح العاجلة والآجلة، ولما يترتب على تركه من استشراء الباطل، وانتشار الفساد، وغلبة المعاصي وهيمنتها، وهي الجالبة لسخط الله، المنذرة بمقت الله وعاجل عقوبته على الأفراد والأمم، فلله كم هي فوائده العظيمة، ومصالحه الجسيمة!! وحقًا، العمل به أمارة التقوى والإيمان، وقال سبحانه: (والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر) [التوبة: 71]، وتركه علامة النفاق والحرمان!! قال الله تعالى: (المنافقون والمنافقات بعضهم من بعض يأمرون بالمنكر وينهون عن المعروف) [التوبة: 67]، وهما - أي: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر - من أعظم أسباب النصر على الأعداء، والتمكين في الأرض، قال عز من قائل: (ولينصرن الله من ينصره إن الله لقوي عزيز) [الحج: 40]، وقال تعالى: (الذين إن مكناهم في الأرض أقاموا الصلاة واتوا الزكاة وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر) [الحج: 41]، وهما طوق النجاة إلى مرفأ الأمان، وسراج الحياة في مدلهمات الخطوب، يقول سبحانه: (فلما نسوا ما ذكروا به أنجينا الذين ينهون عن السوء وأخذنا الذين ظلموا بعذاب بئيس بما كانوا يفسقون) [الأعراف: 165]. وبالجملة: فهما من أفضل الأعمال، وأكد الفرائض، والزم الحقوق، وبهما تنال مرضاة الديان وتتحقق سعادة العباد في المعاش والمعاد. وقد اقترن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بالوظائف والمهام الإسلامية كافة، كإمرة المسلمين، والقضاء، والفتوى، والتعليم، والطب، والتجارة، والصناعة، وغير ذلك، فكان جوهرًا واصلًا لها، وكل ولاية لها حظ من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. وكان من بين المهام الإسلامية، ولاية عظيمة، ومهمة كبرى، هي ولاية الحسبة، التي تقوم على مبدأ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وغايتها: تحقيق هذا الأصل العظيم. والمتأمل في ولاية الحسبة يجد أنها تختص بمزيد عناية بما هو خارج عن اختصاصات بقية الولايات، وإن تداخلت في أصل عملها مع الولايات الأخرى، إلا أنها قد تنفرد في كثير من أعمالها ومهامها، فهي تشرف على جانب من العبادات، وفضائل من المندوبات، وكثير من المعاملات، وفصول من العادات، وغيرها من المباحات، وذلك بالحث على الطيبات، والنهي عن المستخبثات. ومن هذه التقدمة يتضح أن ولاية الحسبة تتضمن الإشراف على كثير من أعمال الناس في شتى ضروب معايشهم، ولم يقف شمولها عند هذا الحد، بل شمل النصح والتوجيه لكل أفراد المجتمع. وإن ولاية بهذه المنزلة السنية، والرتبة العلية، لتستلزم مزيد العناية وفائق التأصيل، لتؤدي رسالتها على الوجه الصحيح، والمنهج القويم. ومن ثم كان هذا البحث في هذا الموضوع المهم، وقد سار وفق الخطة التالية: خطة البحث يشتمل البحث على مقدمة وثلاثة مباحث وخاتمة: المقدمة: وتشتمل على أهمية الموضوع وخطة البحث المبحث الأول: تعريف الحسبة، وأهميتها، وأدلتها: ويشتمل على ثلاثة مطالب: المطلب الأول: تعريف الحسبة. المطلب الثاني: أهمية الحسبة. المطلب الثالث: أدلة الحسبة من الكتاب والسنة. المبحث الثاني: شروط الحسبة، وآدابها: ويشتمل على مطلبين: المطلب الأول: شروط الحسبة. المطلب الثاني: آداب الحسبة. المبحث الثالث: تعزيز الحسبة، وسبله، ووسائله: ويشتمل على ثلاثة مطالب: المطلب الأول: تعزيز ثقافة الحسبة لدى الجهات الاحتسابية. المطلب الثاني: تعزيز ثقافة الحسبة لدى المجتمع. المطلب الثالث: وسائل تعزيز ثقافة الحسبة. الخاتمة: وتشمل أهم النتائج والتوصيات. هذا وأن من فضل الله تعالى - وعظيم كرمه أن منّ على هذه البلاد المباركة باهتمام فريد لولاة الأمر حفظهم الله بهذا الأصل العظيم، فهم يدركون يقينًا أن شعيرة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من أهم شعائر الدين الحنيف، ومن أهم الركائز والأسس والثوابت التي قامت عليها هذه البلاد المباركة منذ عهد المؤسس الملك عبدالعزيز رحمه الله وطيب ثراه، انطلاقًا من قوله تعالى: (الذين إن مكناهم في الأرض أقاموا الصلاة واتوا الزكاة وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر) [الحج: 41]، لذا خصصت جهازًا متكاملًا لها. وقد توج هذا الأمر بموافقة خادم الحرمين الشريفين الملك عبدالله بن عبدالعزيز حفظه الله على تأسيس كرسي الملك عبدالله بن عبدالعزيز للحسبة ودراساتها المعاصرة في جامعة الملك سعود، وآخر باسم صاحب السمو الملكي الأمير نايف في الجامعة الإسلامية. وكان في هذه الخطوة المباركة منهما أيدهما الله دعمًا كبيرًا لمسيرة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لتقوم بأداء رسالتها على الوجه الأكمل في هذه البلاد المباركة، وعلى وفق توجيهات الشرع الحكيم، بفهم السلف الصالح من صحابة الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم وتابعيهم بإحسان. وإننا إذ نحمد الله تعالى على هذا التوجه الإسلامي لبلادنا، فأننا نتوجه بأسمى آيات الشكر لولاة الأمر حفظهم الله وأيدهم لجهودهم الطيبة واهتمامهم بأمور الحسبة وتذليل كل العقبات، وتسهيل كل السبل والوسائل، كما نشكر الجهود المباركة للقائمين على كرسي الملك عبدالله بن عبدالعزيز للحسبة ودراساتها المعاصرة، وللهيئة ورجالها، وما يبذلونه من وقت وجهد في هذا المجال، واسأل الله أن يجعله في موازين حسناتهم. كما اسأله تعالى أن يحفظ علينا امننا وبلادنا وان يوفقنا لما يحب ويرضى، انه على كل شيء قدير، وأخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين. المبحث الأول: تعريف الحسبة، وأهميتها، وأدلتها المطلب الأول: تعريف الحسبة: ويشمل عنصرين: العنصر الأول: التعريف بمصطلحات البحث الرئيسة: التعريف بالحسبة لغة واصطلاحًا: أولًا: تعريف الحسبة لغة: الحسبة لغة: مصدر من احتسب يحتسب احتسابًا وحسبة وهي عائدة إلى الحسب، والحاء والسين والباء: أصول أربعة: الأول: العد، تقول حسبت الشيء واحسبه حسبًا وحسبانًا، قال تعالى: (الشمس والقمر بحسبان) [الرحمن: 5]. الثاني: الكفاية، تقول: شيء حساب أي كاف، ومنه قوله تعالى: (عطاء حسابا) [النبأ: 36]، أي: كافيا. الثالث: الحسبان جمع حسبانة وهي الوسادة الصغيرة، وقد حسبت الرجل احسبه: إذا اجلسته عليها ووسدته إياها، ومنه قول القائل: غداة ثوى في الرمل غير محسب الرابع: الأحسب الذي ابيضت جلدته من داء ففسد شعره كأنه أبرص. والمعنى الأول هو المعنى المراد وهو العد. فالحسبة: مصدر احتسابك الأجر على الله، تقول: فعلته حسبة، واحتسب فيه احتسابًا، والاحتساب: طلب الأجر، والاسم: الحسبة بالكسر وهو الأجر. والحسبة: اسم من الاحتساب كالعدة من الاعتداد، وإنما قيل لمن ينوي بعمله وجه الله: احتسبه، لأن له حينئذ أن يعتد عمله، فجعل في حال مباشرة الفعل كأنه معتد به، واحتسب عليه كذا: إذا أنكرته عليه. وإنكارك عليه تعده أجرا تدخره عند الله، واحتسب فلان ابنًا له أو بنتًا إذا مات لأن الأب يعد صبره مما يدخره عند الله. ويقال: إنه لحسن الحسبة في الأمر، إذا كان حسن التدبير له، لأنه عالم بعداد كل شيء وموضعه من الرأي والصواب. ثانيًا: تعريف الحسبة اصطلاحًا: تعددت تعريفات الحسبة في الاصطلاح ولعل من أشهر هذه التعريفات ما ذكره الإمام الماوردي حيث قال: «الحسبة هي أمر بالمعروف ونهي عن المنكر إذا ظهر فعله». ووافقه على هذا التعريف عدد من العلماء والأئمة وأضاف بعضهم جملة: وإصلاح بين الناس. وعرفها الإمام الغزالي بقوله: «الحسبة: عبارة عن المنع عن منكر لحق الله، صيانة للممنوع عن مقارفة المنكر». وعرفها في موضع آخر بقوله: «الحسبة: عبارة شاملة للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر». أما العلامة ابن خلدون فقال عنها: «وظيفة دينية من باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر». ولعل تعريف الإمام الماوردي هو التعريف الشامل لما يراد من المعاني وهو في ذات الوقت تعريف جامع مانع، من حيث أن الحسبة طلب الأجر من الله تعالى في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والله اعلم. العنصر الثاني: التعريف بمصطلحات ذات صلة وثيقة بالموضوع: أولًا: الأمر بالمعروف: الأمر لغة: من أمر يأمر أمرًا: أي طلب منه إنشاء شيء أو فعله فهو أمر وذاك مأمور والجمع أمور وأوامر. واصطلاحًا: هو صيغة يطلب بها إنشاء فعل عن الفاعل المخاطب. والمعروف لغة: يقال: عرف يعرف معرفة وعرفانًا: علمه بحاسة من الحواس الخمس فهو عارف، وتعرف ضد تنكر، المعروف اسم مفعول ضد المنكر، وهو كل ما سكنت إليه النفس واستحسنته. واصطلاحًا: اسم جامع لكل ما يحسن في الشرع. فالأمر بالمعروف هو: طلب فعله والترغيب فيه والحث عليه. ثانيًا: النهي عن المنكر: النهي لغة: يقال: نهاه أي زجره ومنعه ضد أمره به، النهي مصدر نهي وعند النحاة ضد الأمر، وهو قول القائل: لا تفعل حثًا على الشيء أو زجرًا عنه. واصطلاحًا: طلب الكف عن الفعل أو طلب الترك. والمنكر لغة: يقال: نكر الأمر ينكره نكرًا ونكر ونكورًا ونكيرًا: جهله، ونكر الأمر: صعب واشتد، وأنكره: لم يعرفه، ومنه التنكر: وهو الانتقال من حال تسر إلى حال تكره. واصطلاحًا: اسم جامع لكل ما نهى عنه الشرع من قول أو فعل أو اعتقاد. فالنهي عن المنكر يعني: الصد عنه، والتنفير والمنع منه. ثالثًا: الدعوة: الدعوة لغة: الدعوة: المرة الواحدة من الدعاء، ودعا الرجل دعوا ودعاء: ناداه، ودعوت فلانًا أي صحت به واستدعيته. واصطلاحًا: هي الحث على الدخول في الإسلام اعتقادًا وقولًا وعملًا ظاهرًا وباطنًا. المطلب الثاني: أهمية الحسبة: إن الحسبة في الإسلام تعني الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وهذان أصلان عظيمان، وهما خير الأعمال وأفضلها. يقول شيخ الإسلام ابن تيمية: «وإذا كان جماع الدين وجميع الولايات هو أمر ونهي، فالأمر الذي بعث الله به رسوله هو الأمر بالمعروف، والنهي الذي بعثه به هو النهي عن المنكر وهذا نعت النبي والمؤمنين كما قال تعالى: (والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر) [التوبة: 71]، وهذا واجب على كل مسلم قادر، وهو فرض على الكفاية، ويصير فرض عين على القادر الذي لم يقم به غيره والقدرة هو السلطان والولاية». فالحسبة من أم المطالب الشرعية، كما أنها ضرورة بشرية، لا يستغنى عنها احد ممن يريد النجاة في الدنيا والآخرة. ويمكن أن نلخص أهميتها وعظيم فائدتها في العناصر الآتية: العنصر الأول: الحسبة القطب الأعظم في الدين: يقول الإمام الغزالي: «إن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر هو القطب الأعظم في الدين، وهو المهم الذي ابتعث الله له النبيين أجمعين، ولو طوى بساطه وأهمل علمه وعمله، لتعطلت النبوة، واضمحلت الديانة، وعمت الفتنة، وانتشرت الضلالة، وشاعت الجهالة، واستشرى الفساد، واتسع الخرق، وخربت البلاد، وهلك العباد، ولم يشعر بالهلاك إلا يوم التناد». وقال الإمام القرطبي: «إن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر كان واجبًا في الأمم المتقدمة، وهو فائدة الرسالة وخلافة النبوة، قال الحسن: قال النبي: «من أمر بالمعروف ونهى عن المنكر فهو خليفة اله في أرضه، وخليفة رسوله وخليفة كتابه». أما الإمام النووي فقال: «هو باب عظيم به قوام الأمر وملاكه.. فينبغي لطالب الآخرة، والساعي في تحصيل رضا الله عز وجل أن يعتني به فان نفعه عظيم». وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: «الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر الذي انزل الله به كتبه، وأرسل به رسله من الدين». وقال الإمام الشاطبي: «تكاليف الشريعة ترجع إلى حفظ مقاصدها في الخلق.. فأصول العبادات راجعة إلى حفظ الدين من جانب الوجود كالإيمان والنطق بالشهادتين، والصلاة، والزكاة، والصيام، والحج، وما أشبه ذلك. والعادات راجعة إلى حفظ النفس والعقل من جانب الوجود أيضا كتناول المأكولات والمشروبات، والملبوسات والمسكونات وما أشبه ذلك، والمعاملات راجعة إلى حفظ النسل والمال من جانب الوجود، والى حفظ النفس والعقل أيضا لكن بواسطة العادات والجنايات، ويجمعها الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر». ويقول الإمام الشوكاني: «الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ووجوبه ثابت بالكتاب والسنة وهو من أعظم واجبات الشريعة المطهرة، واصل عظيم من أصولها، وركن مشيد من أركانها، وبه يكمل نظامها ويرتفع سنامها». العنصر الثاني: الحسبة من صفات الأنبياء والمؤمنين: قال شيخ الإسلام ابن تيمية: «إذا كان جماع الدين وجميع الولايات هو أمر ونهي، فالأمر الذي بعث الله به رسوله هو الأمر بالمعروف والنهي الذي بعثه به هو النهي عن المنكر وهذا نعت النبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنين». فالحسبة هي وظيفة الرسل أجمعين، يدعون أقوامهم إلى الخير، ويحذرونهم من كل شر، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما من نبي قبلي إلا كان حقًا عليه أن يعلم أمته ما هو خير لهم، وان يحذرهم ما هو شر لهم». وان أعظم الخير هو الدعوة إلى اله وحيد، وان أعظم الشر هو الكفر واتباع الشيطان قال الله تعالى: (ولقد بعثنا في كل امة رسولًا أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت) [النحل: 36]. وجاء في وصف نبينا صلى الله علي وسلم قول الله تعالى: (الذين يتبعون الرسول النبي الأمي الذي يجدونه مكتوبًا عندهم في التوراة والإنجيل يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر ويحل لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبائث ويضع عنهم إصرهم والأغلال التي كانت عليهم فالذين امنوا به وعزروه ونصروه واتبعوا النور الذي انزل معه أولئك هم المفلحون) [الأعراف: 157]. قال الإمام الطبري: «يأمر هذا النبي الأمي اتباعه بالمعروف: وهو الإيمان بالله ولزوم طاعته فيما أمر ونهى، فذلك المعروف الذي يأمرهم به، وينهاهم عن المنكر وهو الشرك بالله، والانتهاء عما نهاهم الله عنه». وفي وصف المؤمنين والمؤمنات يقول الله تعالى: (والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة ويطيعون الله ورسوله أولئك سيرحمهم الله أن الله عزيز حكيم) [التوبة: 17]. قال الإمام القرطبي: «في التنزيل (المنافقون والمنافقات بعضهم من بعض يأمرون بالمنكر وينهون عن المعروف) ثم قال (والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر) [التوبة: 17، 67] فجعل تعالى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فرقًا بين المؤمنين والمنافقين، فدل على أن أخص أوصاف المؤمن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ورأسها الدعاء إلى الإسلام والقتال عليه». العنصر الثالث: أنها سبب خيرية هذه الأمة وفلاحها: قال تعالى: (كنتم خير امة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله ولو آمن أهل الكتاب لكان خيرًا لهم منهم المؤمنون وأكثرهم الفاسقون) [آل عمران: 110]. قال الإمام الطبري: «عن مجاهد في قول الله عز وجل (كننتم خير أمة أخرجت للناس) [آل عمران: 110] يقول: على هذا الشرط أن تأمروا بالمعروف وتنهوا عن المنكر وتؤمنوا بالله.. وعن أبي هريرة قال: كنتم خير الناس للناس تجيئون بهم في السلاسل تدخلونهم في الإسلام» . وقال الإمام الشوكاني: «فيه دليل على أن هذه الأمة الإسلامية خير الأمم على الإطلاق.. مع ما يشتم عليه من أنهم خير أمة ما أقاموا على ذلك واتصفوا به، فإذا تركوا الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر زال عنهم ذلك، ولهذا قال مجاهد: أنهم خير أمة على الشرائط المذكورة في الآية... أي كنتم خير أمة حول كونكم أمرين ناهين مؤمنين بالله». فالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر سبب خيرية هذه الأمة بين الأمم، والقائمون على هذا الأمر هم أهل الفلاح عند الله تعالى الباقون في جناته ونعيمه. العنصر الرابع: أن تركها والتهاون بها سبب لاستحقاق العقاب: لقد حذر رسول الله صلى الله عليه وسلم من ترك الحسبة، فان في تركها استحقاقًا لعقاب الله تعالى، ومنعًا من إجابة الدعوة، فقال: «والذي نفسي بيده لتأمرون بالمعروف ولتنهون عن المنكر أو ليوشكن الله أن يبعث عليكم عقابًا منه ثم تدعونه فلا يستجاب لكم». وعن أبي بكر الصديق أنه قال بعد أن حمد الله وأثنى عليه: يا أيها الناس إنكم تقرؤون هذه الآية وتضعونها على غير موضعها (عليكم أنفسكم لا يضركم من ضل إذا اهتديتم) [المائدة: 105]، وإنا سمعنا النبي صلى الله عليه وسلم يقول: «إن الناس إذا رأوا الظالم فلم يأخذوا على يديه أوشك أن يعمهم الله بعقاب»، واني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «ما من قوم يعمل فيهم بالمعاصي ثم يقدرون على أن يغيروا ثم لا يغيروا إلا يوشك أن يعمهم الله منه بعقاب». وكما أن تركها فيه استحقاق لعقاب الله تعالى فهو أيضا سبب لاستحقاق اللعن، قال الله تعالى: (لعن الذين كفروا من بني إسرائيل على لسان داود وعيسى ابن مريم ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون كانوا لا يتناهون عن منكر فعلوه لبئس ما كانوا يفعلون) [المائدة: 78-79]. قال الإمام القرطبي: «أي لعنوا في الزبور والإنجيل، فإن الزبور لسان داود، والإنجيل لسان عيسى، أي لعنهم في الكتابين، قال مجاهد وقتادة وغيرهما: لعنهم: مسخهم قردة وخنازير.. (كانوا لا تناهون) أي: لا ينهي بعضهم بعضًا (لبئس ما كانوا يفعلون) ذم لتركهم النهي، وكذا من بعدهم يذم من فعل فعلهم.. والإجماع منعقد على أن النهي عن المنكر فرض لمن أطاقه وامن الضرر على نفسه وعلى المسلمين، فان خاف فينكر بقلبه ويهجر ذا المنكر ولا يخالطه» (46). وقال الإمام الشوكاني: «والمعنى: أنهم كانوا لا ينهون العاصي من معاودة معصية قد فعلها أو تهيأ لفعلها، ويحتمل أن يكون وضعهم بأنهم قد فعلوا المنكر باعتبار حالة النزول لا حالة ترك الإنكار، وبيان العصيان والاعتداء بترك التناهي عن المنكر، لان من اخل بواجب النهي عن المنكر، فقد عصى الله وتعدى حدوده، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من أهم القواعد الإسلامية، واجل الفرائض الشرعية، ولهذا كان تاركه شريكًا لفاعل العصية ومستحقًا لغضب الله وانتقامه كما وقع لأهل السبت، فان الله مسخ من لم يشاركهم في الفعل، ولكن ترك الإنكار عليهم كما مسخ المعتدين فصاروا جميعًا قردة وخنازير.. ثم أن الله سبحانه قال مقبحًا لعدم التناهي عن المنكر (لبئس ما كانوا يفعلون) [المائدة: 79] (47). المطلب الثالث: أدلة الحسبة من الكتاب والسنة: لقد شرف الله هذه الأمة فجعلها خير امة أخرجت للناس، وجعل سبب هذه الخيرية أنها تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر، فقال سبحانه: (كنتم خير امة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله) [آل عمران: 110]، قال ابن عباس: «تأمرون بالمعروف أن يشهدوا أن لا اله إلا الله.. ولا اله إلا الله هو أعظم المعروف، وتنهونهم عن المنكر، والمنكر هو التكذيب وهو أنكر المنكر». وقد جاءت الآيات والأحاديث في هذا الباب تترى تؤكد هذا المعنى وتؤصله، فكان أن عده بعض العلماء ركنًا سادسًا من أركان الإسلام. وفيما يلي تأصيل لهذا الموضوع المهم من كتاب الله تعالى وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم. العنصر الأول: أدلة الحسبة من القرآن الكريم: قال تعالى: (ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر وأولئك هم المفلحون) [آل عمران: 104]. قال الإمام الطبري: «ولتكن منكم أيها المؤمنون جماعة يدعون الناس إلى الإسلام وشرائعه التي شرعها الله لعباده، ويأمرون الناس باتباع محمد صلى الله عليه وسلم ودينه الذي جاء به من عند الله، وينهون عن المنكر يعني ينهون عن الكفر بالله والتكذيب بمحمد وبما جاء به من عند الله، بجهادهم بالأيدي، والجوارح حتى ينقادوا لكم بالطاعة». وقال الإمام البيضاوي: «من - في الآية - للتبعيض، لان الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من فروض الكفاية، ولأنه لا يصلح له كل احد، إذ للمتصدي شروط لا يشترط فيها جميع الأمة كالعلم بالأحكام ومراتب الاحتساب، وكيفية إقامتها والتمكن من القيام بها، خاطب الجميع وطلب فعل بعضهم ليدل على انه واجب على الكل حتى لو تركوه رأسا أثموا جميعًا ولكن يسقط بفعل بعضهم، وهكذا كل ما هو فرض كفاية.. والأمر بالمعروف يكون واجبًا ومندوبًا على حسب ما يؤمر به، والنهي عن المنكر واجب كله لأن جميع ما أنكره الشرع حرام، والأظهر أن العاصي يجب عليه أن ينهى عما يرتكبه لأنه يجب عليه تركه وإنكاره فلا يسقط بترك احدهما وجوب الأخر». فهذه الآية جاءت بصيغة الأمر المؤكد لتدل على وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر على جميع الأمة. وجاءت آية أخرى تأمر النبي صلى الله عليه وسلم خاصة بالأمر بالمعروف، والأمر للنبي صلى الله عليه وسلم أمر لأمته معه ما لم يدل على اختصاصه به، قال الله تعالى: (خذ العفو وأمر بالعرف واعرض عن الجاهلين) [الأعراف: 199]. قال الإمام الطبري: «والصواب القول في ذلك أن يقال: إن الله أمر نبيه أن يأمر الناس بالعرف وهو المعروف في كلام العرب، مصدر في معنى المعروف، فإذا كان معنى العرف ذلك فمن المعروف صلة رحم من قطع، وإعطاء من حرم، والعفو عمن ظلم، وكل ما أمر الله به من الأعمال أو ندب إليه فهو من العرف، ولم يخصص الله من ذلك معنى دون معنى، فالحق فيه أن يقال: قد أمر الله نبيه صلى الله عليه وسلم أن يأمر عباده بالمعروف كله لا ببعض معانيه دون بعض» . العنصر الثاني: أدلة الحسبة من السنة المطهرة: إن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر باب عظيم، به تقوم شرائع الإسلام الظاهرة والباطنة، ولقد بعث الله تعالى أنبياءه بهذا الأصل العظيم، فكانوا يأمرون أقوامهم بالمعروف، وينكرون على أهل الضلال والفساد منكراتهم وفسادهم، بل يحثون اتباعهم من المؤمنين على التمسك بهذا الأمر، فهو قوام كل الشرائع السماوية. وفي هذا يقول نبينا: «من رأى منكم منكرًا فليغيره بيده، فان لم يستطع فبلسانه، فان لم يستطع فبقلبه، وذلك اضعف الإيمان». فقوله صلى الله عليه وسلم: «فليغيره» هذا أمر يفيد الوجوب، والفاء تدل على السرعة. قال الإمام النووي في شرح هذا الحديث: «وأما قوله صلى الله عليه وسلم «فليغيره» فهو أمر إيجاب بإجماع الأمة وقد تطابق على وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر: الكتاب والسنة وإجماع الأمة، وهو أيضا من النصيحة التي هي الدين.. أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فرض كفاية إذا قام به بعض الناس سقط الحرج عن الباقين، وإذا تركه الجميع أثم كل من تمكن منه بلا عذر ولا خوف.. قال العلماء: «ولا يسقط عن المكلف الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لكونه لا يفيد في ظنه بل يجب عليه فعله فان الذكرى تنفع المؤمنين». وروى أبو داود في سننه عن أبي بكر الصديق أنه قال: «يا أيها الناس إنكم تقرءون هذه الآية وتضعونها على غير موضعها (عليكم أنفسكم لا يضركم من ضل إذا اهتديتم) [المائدة: 105] وإنا سمعنا النبي صلى الله عليه وسلم يقول: «إن الناس إذا رأوا الظالم فلم يأخذوا على يديه أوشك أن يعمهم الله بعقاب» واني سمعت رسول الله يقول: «ما من قوم يعمل فيهم بالمعاصي فلم يقدرون على أن يغيروا، ثم لا يغيروا إلا يوشك أن يعمهم الله منه بعقاب». واخرج الترمذي في سننه من حديث حذيفة بن اليمان أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «والذي نفسي بيده لتأمرون بالمعروف ولتنهون عن المنكر أو ليوشكن الله أن يبعث عليكم عقابًا منه ثم تدعونه فلا يستجاب لكم» . فهذه جملة من أحاديث النبي، وغيرها كثير في دواوين السنة المطهرة، سبقت بآيات من كتاب الله تعالى، تؤصل لهذه الشعيرة الإسلامية العظيمة، وتوجب فرضيتها، وانه لا يحل تركها أو التخلي عنها. فهي من أعظم واجبات الشريعة الإسلامية، وهي سبب تحقق هذه الأمة بالخيرية، فهي أصل أصيل، وحصن حصين، وأساس متين، متى ما قامت به الأمة عزت وسادت، وانتصرت وقادت. * إمام وخطيب المسجد الحرام، أستاذ الدراسات العليا الشرعية بجامعة أم القرى