عاد إلى منزله يجر خلفه سبعين عاما تركها على كتفيه الزمان.. نظر إليها ورمى عليها السؤال التقليدي.. كيف كان يومك؟؟ وكأنه بهذا السؤال أخذ دبوسا وأدخله تحت جلدها الذي تجمعت تحته أمطار حزنها سنة بعد سنة، نظرت إليه وكأنها تنظر إليه لآخر مرة في حياتها ارتابت أن يكون هذا الوجه هو وجهه، ودت من كل قلبها أن يخلع قناعه كما خلعت أيامه من حياتها.. انطلقت الكلمات من فمها كما يخرج السهم الناري.. كالرصاصة من فوهة مسدس.. أيامي هي أيام البؤس التي لن تتغير، زعانفي ترتعش وأجنحتي تضرب بعضها وريشي يتناثر وأعرق كل يوم وأغرق كل يوم وأتمزق كل يوم.. التفت إليها بغضب وأسى.. وماذا ينقصك لديك كل شيء؟؟ ينقصني حبة الفاليوم ومخدة من ريش.. تنقصني الحياة!! نظرت إليه وكأنها خافت أن لا يفهم كما بان في تعبير وجهه.. لم تكن أبدا زوجي في هذه الحياة.. ضحك مستغربا وكأنه قد سلم بأنها مرحلة من مراحل الجنون التي تنتابها بين الحين والأخرى.. عادت للكلام وكأنها أرادت ان توضح لنفسها أولا.. كنت في حاجة إلى أب وليس زوج، كنت في حاجة إلى نوع من الحماية أما الآن فقد كبرت وأستطيع السير بمفردي دون مساعدة من أحد.. ترددت كثيرا قبل أن تضيف.. كنت طفلة.. لقد تزوجتني طفلة.. خطفت مني شهوة اللعب والنوم المبكر وعلبة الألوان وطائرتي الورقية.. وجعلتني أتنكر لصداقة الأزهار والعصافير والضفادع والحشرات الصغيرة التي كنت أستضيفها في جيوب فستاني الصيفية القصيرة.. لقد تزوجتني لأسباب.. وها أنا أكرهك لنفس الأسباب.. لقد كنت وصفة طبية أجهل تركيبتها وعندما تناولتها لم يعد تنفسي طبيعيا ولا نومي طبيعيا ولا تخطيط قلبي طبيعيا!! ود لو يصفعها ولكنه خاف من نظرات عينيها وملامحها الحادة والتصميم الذي ارتسم على وجهها.. لم يفهم أبدا لغة هذه العيون من قبل.. لم يفهم أبدا معنى الجملة التي أخذت زوجته ترددها طوال الشهور الماضية «هذا الزواج سيقتل روحي» وتمنى لو فقد ما تبقى من العمر وليس منه الكثير فقط ليفهم سبب قوتها وتمردها.. واكتفى بالصمت والنظر إليها في حيرة ولما طال الصمت بينهما قالت بهدوء وهي تضغط على الكلمات.. لن أستمر في زواج أحس فيه أنني أبيع جسدي وكادت تبتسم لتسخر من نفسها لأنها لم تعرف من قبل أن بداخلها هذه المقدرة على التعبير.. ومرة أخرى وكأنها تحادث روحها وأعمق أعماقها.. نعم لن استمر في زواج أحس فيه أنني أجمع رماد حياتي في قارورة على الطريقة البوذية!! وجاءت جملتها الأخيرة لتجعله يتركها ويمضي إلى غرفة داخلية.. أما هي فقد حملت شنطتها في محاولة لاستعادة نفسها البشرية من جديد.. وسارت ببطء نحو الباب ولما أغلقته وراءها لفحت وجهها نسمة هواء رطبة ومنعشة أحست بإحساس من يرى الحرية بعد طول غياب وأرادت بكل كيانها أن تستحم.. أن تغتسل حتى العظام وأن تبكي حتى لا يتبقى ما تحزن من أجله!! ثم وهي خارج البيت في الشارع.. في الأمان.. والاستقرار واللاشيء.. ابتسمت ودخل قلبها بعد طول حرمان إحساس بفرح حقيقي.. طفرت دمعة من عينيها نظرت إلى السماء وتمتمت سامحك الله يا أمي لقد بعت أنوثتي بثمن بخس للدهر والزمان وكان كل ما طلبه منك أبي قبل موته أن تحميني من الدهر والزمان.. وصدق الجاحظ عندما قال «تحب المرأة أربعين سنة وتقوى على كتمان ذلك وتكره يوما واحدا فيظهر في وجهها ولسانها»!!