لفتني أستاذي الشاعر عبدالله عبدالرحمن الزيد من خلال استضافته في البرنامج المميز (وينك) الذي تبثه روتانا خليجية كل خميس إلى قضية الحزن الوجودي المرتبط بالإنسان النبيل، سأله المذيع المميز محمد الخميسي: لماذا أنت حزين حتى وأنت تقرأ نشرة الأخبار؟ فأجاب: الحزن ليس غريبا على الإنسان بعامة، وأضاف: شرط من شروط الإنسانية أن تحزن، وأكد على أن الحزن معادل موضوعي للإنسان، عدت بعدها للبحث في تاريخ النص الإبداعي العربي لأجد أن حس الاغتراب طاغيا على المعلقات والمجاميع الشعرية فإمام الشعراء امرؤ القيس برغم أريحيته في التعبير عن كنه الأشياء باعترافية شفيفة إلا أن حزنه حاضر «وقوفا بها صحبي علي مطيهم ، يقولون لا تهلك أسى وتجملِ، وإن شفائي عبرة مهراقة ، فهل عند رسم دارس من معول»؛ ويبدو أن الحزن والتشاؤم شرطان لازمان للإبداع حتى وإن ظهر المبدع بملامح فرائحية. ويرى الشاعر الفلسطيني أسامة عثمان أن توالي الخيبات العربية تسرب إلى الشعر العربي وأضفى حسا محبِطا على حساب الخطاب الشعري المحفز، مستعيدا الشاعر الراحل نزار قباني من خلال (هوامش على دفتر النكسة)، وأمل دنقل في مجموعة (البكاء بين يدي زرقاء اليمامة). وأرى أن أزمة المبدع تبدأ باستعادته لحظة إخراج أبينا آدم من الجنة وأستاذ الأجيال أبو الطيب المتنبي التفت لهذا الملمح عندما قال عن إشكالية الاغتراب (ولكن الفتى العربي فيها، غريب الوجه واليد واللسان، أبوكم آدم سن المعاصي، وعلمكم مفارقة الجنان) إضافة إلى ما أقدم عليه قابيل من قتل أخيه وقيل بأن أبانا آدم عليه السلام قال شعرا منه (بكت عيني وحق لها بكاها، ودمع العين منهمل يسيح، فما لي لا أجود بسكب دمع، و هابيل تضمنه الضريح، رمى قابيل هابيلا أخاه، وألحد في الثرى الوجه الصبيح). وبما أن الجينات الوراثية تنتقل من جيل إلى جيل فمن الطبيعي أن يتوراث الشعراء والمبدعون هذا الجين الحزين المتجلي في نصوصهم شعرا وسردا، وكاتبنا عبده خال من أوائل سردياته (ليس هناك ما يبهج)، و(الموت يمر من هنا). وهنا يحضر السؤال: «هل بإمكان المبدع أن ينفصم عن ذاته الشاعرة أو المبدعة ويكتسي لكل لحظة لبوسها؟، أتصور أن مثل هذا يصدق على ( الممثل) الذي يتقمص أكثر من دور على مسرح الحياة أو أمام الكاميرا، فالشاعر الحقيقي والمبدع النقي وجه واحد وليس من السهل أو اليسير عليه أن ينفصل عن الذات الإنسانية في داخله خصوصا أننا كنا في أزمنة مضت لا نتبرم ونتوجع لأكثر من قضيتنا الأم (قضية فلسطين) التي احتلت حيزا واسعا من فضاء التعبير الفني طيلة نصف قرن ولاتزال إلا أن تزامن الانفتاح الفضائي مع انفتاح الجراح العربية قلص مساحات الفرح والبهجة وتحولت مفردات السعادة والحب إلى استثناء في النصوص في ظل ضخ مشاهد الأسى اليومية، والمبدع شاعرا كان أم ساردا أم رساما أو مصورا لا يمكنه الانفصال عن محيطه وشرطه الإنساني الجماعي. ويتساءل أسامة عثمان هل يريد الشاعر أن ينسق الوجود الخارجي وفقا لمشاعره ووجدانه، أو أنه يريد تنسيق وجوده وفقا للوجود الخارجي؟ ويستشهد بنقل عن الدكتور عز الدين إسماعيل في كتابه «التفسير النفسي للأدب» إذ قال (الفنان يلون الأشياء بدمه). من هنا فالصورة الشعرية (أو المعنى الشعري) لا تمثل بالضرورة الواقع، ولكنها تمثل رؤية الشاعر الذهنية النفسية، في حين ينقل عن الشاعر محمود درويش في حوار أجراه معه الكاتب المغربي حسن نجمي في مجلة الكرمل (بأنه غير راض عن علاقته بالواقع، ولا بشرطه التاريخي وبالتالي فهو يسعى دائما لكي يؤسس من خلال الواقع العيني واقعا استعاريا أو جماليا، فيجعل الواقع اللغوي في تضاد مع الواقع العيني)، ويؤكد عثمان أن هذه الروحية الشعرية المتجاوزة والخالقة أقرب ما تكون إلى الجمالي المأمول، بفتح نافذة أو نوافذ إليه على صعيد الصورة والكلمة، عملا بقول المتنبي: ( فليسعدِ النطق إن لم تسعدِ الحال)..