بدأ تعارفي، ولا أقول معرفتي، باللغة العربية متأخرا، تحديدا في المرحلة الثانوية، بعد معاناة سنوات مع القواعد والإملاء، ربما لمحدودية فهمي أو لعقم طرق تدريسنا. حتى الشعر وهو وسيلة تحبيب اللغة، كانوا يصدموننا بمختارات كجلمود صخر حطه السيل من علٍ، فإن تلطفوا أتونا بأهزوجة بلاد العرب أوطاني نلهو بها قليلا. دخلت محراب اللغة من أضيق أبوابه، من خلال حصة التعبير. وجدت نفسي في مادة التعبير، وكنت كلما أوغل في استخدام مفردات جديدة تفاجئني اللغة الجميلة بمترادفات أكثر، ساعدني ولعي بقراءة القصص مراهقا قبل التحول للكتب، يكفي أن كتاب العقاد «العبقريات» كان مقررا علينا، ثم وصلت لأيام طه حسين وتوقفت طويلا عند نظرات المنفلوطي. مدخلي الثاني للغة كان ديوان العرب، البداية كانت باب الغزل، فمعظم الشعر الجيد يستهل به القصيدة أيا كان موضوعها، «بانت سعاد فقلبي اليوم متبول» مدخل قصيدة قديما لمدح الرسول عليه الصلاة والسلام، وصولا إلى «ريم على القاع بين البان والعلم» حديثا. المدهش كنا نسمع بالمذياع ونقرأ بالصحف أسوأ أنواع الأغاني والأشعار، ونحرم روائع الشعر كأداة لتهذيب النفوس. من اختار «مكر مفر مقبل مدبر معا» ما ضره لو أختار «تعلق قلبي طفلة عربية» وفيها الكلمة العذبة والمعنى الرقيق، وفيها تلاعب إبداعي بالكلمات، وبدلا من «هلا سألت الخيل» ما ضر لو كانت «إذا لاح الجمال وضعت كفي على قلبي مخافة أن يذوب»، كان هناك الحكيم زهير والمعتذر النابغة والمغامر طرفة والمتعمق المعري والمتحمس أبو تمام والمداح المتنبي، وثلة شعراء الغزل كالأحنف وقيس وابن زيدون وجميل، إلا أنهم جميعا عزلوا من مناهجنا، فنشأ إحساسنا بالجمال هجينا، أظنني سأكتب في سبت قادم عن الشعراء. لغتنا جميلة وغنية، ولن أعيد قصيدة حافظ في التغني بها، لم يجمدها إلا نحن ومجمعات اللغة، ليس عيبا أن تستعير اللغة، أية لغة، كلمات أجنبية، هذا هو القرآن الكريم حافل بها، العيب ألا نجاري سرعة الزمن في التعريب وحسن الاشتقاق من مفرداتها. تصوروا أخذت كلمة سندويتش عشر سنوات لتعريبها لتخرج بشاطر ومشطور وبينهما كامخ، ما ضر لو اكتفوا بشطيرة، وهو ما انتهى إليه الأمر، تتذاكى علينا كليات الطب بصعوبة الترجمة، وكلية طب دمشق تدرسه بالعربي منذ عقود، نحتاج أن نحب اللغة أولا لنخدمها.