بعد قرابة مرور ربع قرن على فتور العلاقة بين المملكة والعراق إثر غزو الأخيرة لدولة الكويت، قررت المملكة أخيرا إعادة فتح سفارتها وإعادة العلاقات الدبلوماسية الطبيعية بين البلدين، وهي الخطوة المتوقعة نتيجة للعديد من المتغيرات السياسية التي أطرت العلاقة بين البلدين مؤخرا، وتوجتها زيارة الرئيس العراقي للمملكة قبل أشهر، وهي الزيارة التي حملت مؤشرات ودلالات عديدة لتغير نظام القوى وموازينه في المنطقة، وغلبة التفكير العقلاني الحكيم لقادة العراق وكبار مسؤوليه. من الصعوبة بمكان تحميل الشعب العراقي نزوات وحماقات زعمائه السابقين، لكن من المؤكد أنهم قد تحملوا بالفعل عواقبها ونتائجها الوخيمة لعقود متتالية، ولهذا كان من الملحوظ الترحيب والاحتفاء بهذه الخطوة من كلا الشعبين، اللذين مزقت القطيعة أوصال العلاقة بينهما، وفرضت طوقا اعتسافيا حول مجرى العلاقة الطبيعية بين بلدين يتشاركان تاريخا جيوسياسيا طويلا. ولكن ما الذي تغير لتحدث تلك الخطوة المأمولة والمتأخرة في آن واحد؟ فتطبيع العلاقات بين البلدين لايزال يرواح مكانه منذ سنوات عدة، وخطوة تعيين سفير في العراق لاتزال في طور الإعداد الذي يسبق التطبيق. إن قراءة سريعة للمتغيرات في خارطة المنطقة العربية الملتهبة المجاورة لدول منطقة الخليج توضح لنا أن السبب الرئيسي لتغير سياسة المملكة تجاه العراق هو التغير الأخير في دوائر السلطة في دولة العراق، والتي أطاحت بالنظام الطائفي البغيض الذي تعمد اضطهاد السنة وإقصاءهم عن مراكز الحكم طيلة سنوات حكمه، وهي السياسة التي كانت تنظر دوما للشعب العراقي باعتباره شعبا شقيقا، كما أنه من الواضح وطبقا لآراء الكثير من المحللين فإن الاضطرابات العميقة الأخيرة والجيشان المتقد الذي ألم بالعراق خلال الأشهر القليلة الماضية، واجتياح الجماعات الإرهابية لأجزاء من أراضيه واكتساحهم لها بقسوة، لم يفرز فقط تغيرا في وجوه السياسيين أو في مناصبهم، بل أفرز تغيرا ايديولوجيا في فكر الساسة الجدد، قوامه التعايش السلمي مع دول الجوار وعدم التدخل في شؤونهم، وعدم السماح للعراق بأن تتخذ كرأس حربة تهدد جيرانها الخليجيين من قبل أطراف وقوى إقليمية مريبة تسعى لفرض نفوذها التوسعي على كامل المنطقة وتهدف لتصفية حساباتها الخاصة، وأهم مرتكزاته التعاون مع أشقائه العرب في القضاء على البؤر الإرهابية، والتي باتت تمثل سرطانا يجب التخلص منه كونه يتمدد يوما بعد يوم وداخل منطقة تلو الأخرى. مما لاشك فيه أن مهمة السفير السعودي القادم في العراق ستكون مهمة استثنائية، فهو لن يؤدي مهام دبلوماسية اعتيادية تقليدية أو روتينية، بل سيكون سفيرا من مهامه إعادة مجريات العلاقة لطبيعتها بين شعبي البلدين، وهي مهمة جسيمة لها الكثير من الأبعاد والسمات، ما يميزها أنه سيكون ممثلا للمملكة في منطقة تعاني من الاضطرابات والنزاعات والمشكلات العقدية والطائفية، وعليه التعامل بغاية الحذر والحكمة مع جميع المستجدات والمتغيرات المتوقعة وغير المتوقعة التي قد تحدث هناك، كما أن عليه التعامل مع إرث تاريخي طويل يمتد لقرابة العقدين والنصف من الريبة والاتهامات المتبادلة، وسيكون عليه التعامل مع ملفات حساسة عديدة لعل أهمها السعي لحل قضايا المواطنين السعوديين الموجودين بالعراق بشفافية ونزاهة وعدم الزج بهم في قضايا سياسية لا علاقة لهم بها، كما سيقع على عاتقه تنفيذ مهام إدارية وإعلامية وتوعوية عديدة، تهدف للتغلغل والنفوذ داخل عقلية الشارع العراقي، ومحاولة محو الآثار السلبية المتغلغلة داخل عقول وأذهان بعض أبنائه، نتيجة سنوات طويلة من الحصار والاقتتال والعزلة الجبرية التي كانت مفروضة على العراقيين، وإظهار صورة مشرقة ومبشرة للشعب السعودي الذي يعد ممثلا شخصيا له. من المؤكد أيضا أن التكتلات الجغرافية ذات الأبعاد السياسية المرتكزة على العوامل الاقتصادية والتاريخية ووحدة اللغة والعرق والدين باتت هي النمط الأساسي المقبول للتعامل مع الدول، كما أن الإرهاب أصبح خطرا ثقيلا يلقي بظلاله الكآبية ممثلا أحد التحديات العصرية التي أصبح لزاما مواجهتها ودحرها لاستتباب الأمن داخل دول المنطقة، ولتبدأ رحلة مسيرتها التنموية دونما عراقيل أو عقبات، ولهذا أصبح تطبيع العلاقات بين الدولتين مطلبا أمنيا اقتصاديا سياسيا ملحا في عصر العولمة وتعدد الكيانات الكبرى وتعملقها، لهذا ننتظر الكثير من السفير القادم الذي سيعد الواجهة التاريخية من مرآة المستقبل، والتي ستبني الجسور وتعيد الثقة بين الشعبين الشقيقين..