هذه الأغنية الجميلة التي شدا بها فنان العرب في أواخر السبعينات الميلادية، لازالت تطرب المستمعين بعد أن توافرت فيها كل مقومات النجاح، صوت عذب ولحن رائع وقبل ذلك كله كلمات راقية صاغها بكل اقتدار الشاعر الراحل فائق عبدالجليل (رحمه الله) ونجح من خلالها في توظيف عبارة (ترى في الجو غيم) كاستعارة لفظية تعني وجود أناس يتعذر معهم رؤية القمر والبوح بالمشاعر، لتحكي بقية كلمات القصيدة خيبة أمله وقد حضر للموعد مبكرا ولكنه لم يعش اللقاء الذي طالما حلم بتفاصيله (جيت أقول، وأبعد الخوف بكلامي، جيت اطمنها واحسسها بغرامي، قاطعتني واهمست همس النسم: أرجوك أبعد أبعد ترى في الجو غيم). أنا أيضا كنت على موعد مع كتابة مقال يبعث الفرح في القلوب، ليقيني بأن الأغلبية سئمت من السوداوية والأخبار الكئيبة، ولم أكن لأجد جوا أكتب فيه منتشيا أفضل من تلك اللحظة التي غطت فيها الغيوم السماء فهبت النسمة العليلة وبدأ المطر يتساقط قطرات قطرات، ولكن للأسف الشديد لا جديد يذكر، فمطر النصف ساعة لازال يحيل الآمال إلى آلام والأفراح إلى آهات، حتى حكايات الأطفال مع المطر تغيرت، فبعد أن كانوا يتراقصون تحت زخاته ويصنعون من الطين بيتا وجدولا وحقلا صغيرا ينبت الأزهار، باتوا اليوم يخافونه، وكل ما يتمنونه أن يجدوا في ثنايا الأخبار المتداولة (خبرا عاجلا) يزف إليهم نبأ (تم تعليق الدراسة يوم غد)!! بالأمس بدأ موسم الأمطار، وبدأنا نرى مشاهد غرق الشوارع والأحياء وبدأت ذكريات السيول الأليمة تستعيد نشاطها وتأخذ مكانها الطبيعي في الواجهة، قد نتفهم على مضض بأن هناك حارات قديمة وأحياء عشوائية ليس من السهل معالجة البنية التحتية لها، ولكن من الصعب جدا أن نستوعب بأن تلك المشاريع الجديدة التي بالكاد تم افتتاحها (تغرق في شبر مويه) إنها أشبه بعروس جميلة طلقت ليلة زفافها فثارت حولها الشكوك المريبة، عروس كان ينتظر منها العريس أن تزين حياته وترتب أموره وتنقله من حياة الفوضى إلى حياة هادئة ومنظمة، لكنه لم يحصد سوى الصدمة وفقد الثقة وسيول من الظنون الجارفة!؟. أمطار هذا العام ( مع أنها في بدايتها ) إلا أنها مثلها مثل أمطار الأعوام السابقة تأتي لتنفض الغبار عن الوجه الجميل للمشاريع المنفذة فيظهر عليها قبح الفساد محفورا كالوشم في ساعد كل جسر وعبارة ونفق!! ذلك أن أغاني المشاريع الحيوية في هذه المدينة تعتمد على جمال وعذوبة التصريحات الرنانة ولا تعير ذلك الاهتمام اللازم لجودة المواصفات الفنية أو قوة البنود التعاقدية المكتوبة، لهذا لا نجدها تصمد كثيرا في ذائقتنا، خاصة عندما نجد المشاريع مع تشكل السحاب وتساقط الأمطار تقف وحيدة تنتظر لقاء (حبيبها المعنى) الذي اعتاد الحضور قبل الموعد والتقاط الصور أمامها والإشادة بجودتها وروعة تصاميمها، ولكنه الآن يتوارى خجلا وحياء عن الأنظار ولا يردد من الكلام سوى ( أرجوك أبعد.. أبعد، ترى في الجو غيم)!!.