من الشعراء الشعبيين في حجازنا الجميل الشاعر الفحل الحكيم (بديوي الوقداني)، الذي عايش ظروف الجزيرة العربية في مرحلة القرن التاسع عشر الميلادي بكل ما فيها من فقر وضيق حياه، فلم يكن لهم والحال كذلك إلا الهجرة إلى ديار الله الواسعة طلبا للرزق والمعيشة. وفي العادة، يهاجر أبناء الجزيرة العربية غالبا إما إلى العراق أو الشام أو مصر، وإن (حنت وطارت) هاجروا إلى الهند، غير أن أحد أقاربي كسر تلك القاعدة. فقد هاجر في أواسط القرن التاسع عشر فتى مراهق من أسرة (السديري)، ولا أستبعد أنه ضاق ذرعا إما بوالده الجلف أو بوالدته المتسلطة، أو من حماقته هو، فما كان منه إلا أن يمتطي ناقته ولم يرده غير فلسطين، ومنها إلى بيروت، ولا أدري كم مكث في بيروت وكم شاهد وعرف وعمل. المهم أن عمي ذاك الذي لا أعرف حتى اسمه ورسمه، أخذ يتسكع على باب الله حول ميناء بيروت ووجد باخرة شحن على وشك الرحيل، فاندفس بين بضائعها، وإذا بالسفينة تلقيه في (مرسيليا)، وبعدها شق عباب المحيط الأطلسي معها إلى أمريكا، ولم ينتبه على نفسه إلا وهو (بنيويورك)، وأخذ المسكين يضرب أخماسا بأسداس بين شوارعها، وكان حاله لا يبتعد تقريبا عن حالة المطربة سميرة توفيق مع الفاروق في فيلمها الساذج (بدوية في باريس). المهم أن عمنا ذاك دخل أمريكا لا كدخول الفاتحين، ولكن كدخول المعوزين الباحثين عن لقمة العيش، وعمل في أعمال كثيرة، والمصيبة أنه في النهاية نجح وأثرى. لا أريد أن أطيل عليكم، ففي عام 1933م، كان جدي في موسم الحج في مجلس الملك عبدالعزيز بمكه، فالتفت له قائلا: إن القنصل الأمريكي ذكر لي: أن هناك (مليونيرا) أمريكيا أصله من الجزيرة العربية ولقبه (السديري)، وهو أعزب ليس له خلفة، وحسب القانون فإن نصف ثروته تؤول إلى أهله في موطنه. وسأل الملك جدي: هل هناك يا أحمد أحد من أسرتك قد هاجر إلى أمريكا لكي تدفع لكم حكومة أمريكا نصف ثروته؟!، وها هو القنصل في جدة ينتظر الجواب مني. فقال له جدي: أعوذ بالله، حتى لو هاجر مجنون من أسرتنا إلى ديار الكفار، فإننا نتبرأ منه، ولن نأخذ من تركته ولا ريالا واحدا حتى لو كانت أمواله أموال (قارون)، وقفلت الصفحة، وذهبت أموال عمنا للحكومة الفيدرالية. لا أدري هل ألوم جدي أم أترحم عليه؟! أما لو أنني كنت في مكانه لصرخت في المجلس بأعلى صوتي: عمي حبيبي، هو ما فيه غيره. وعودا وتصديقا لشاعرنا (الوقداني) عندما قال: صوب أرض الشام أو أرض العراق عل يوم فيه ينحل الوثاق كم نقاسي والقسا مر المذاق ربما نلقي عن المنزل بديل انتهى الآن ها هم في الشام والعراق: يدورون (البديل)، ولكن هيهات فعلا: الدنيا دوارة، فهل من معتبر؟!. [email protected]