عزة العربي ساهمت في اغترابه حتى لم تعد بلاد لم يطأها عربي، فالجفاف الذي تعاني منه البلاد الصحراوية من أكبر الدوافع الطاردة للإنسان لاختراق الآفاق في سبيل البحث عن الرزق، أو الهروب من الثأر أو الاستعداد لأخذه ، ذاك ما كانت عليه بلادنا قبل الوحدة الوطنية وقبل ظهور البترول ، فالوحدة الوطنية وطدت الأمن وحققت الاستقرار، والبترول أنعش الاقتصاد الوطني وأثر في كل مجالات الحياة ، فعادت بلادنا مهوى طالبي الرزق ، ومحط مصانع الانتاج العالمية الذي أصبحت أسواق المملكة أكبر مستهدف للتصدير. والشعر الشعبي من أبرز المصادر لجلاء صور الاغتراب ودوافعه والتي منها البحث عن الرزق ، فالعربي لا يرضى بالاستكانة في انتظار ما يأتي به الغيب من رزق ، ولكنه يسعى في مناكب الأرض مغترباً بحثاً عن الرزق ، والرحلة في سبيل ذلك من طبيعة المجتمعات الصحراوية وراء الكلأ والعشب أو التجارة . لهذا نجد الشعراء يؤيدون الاغتراب لعزة النفس والبعد عن دار الهوان التي يذل فيها المرء ، والوقداني الشاعر المبدع أشار إلى ذلك في كثير من مطولاته الشعرية ومن ذلك قوله: صوب أرض الشام أو أرض العراق عل يوماً فيه ينحل الوثاق كم نقاسي وألقا مر المذاق ربما نلقى عن المنزل بديل * * * دع بلاد الذل وارحل يا لبيب واغترب فالكل في الدنيا غريب القضا مكتوب والداعي نصيب اركب الاخطار والهول المهيل * * * وان جفتك الدار أو مال الزمان لا تعيش بدار ذل أو هوان لو يظلي نبتها من زعفران صاحب الآداب واجعلها دليل * * * شد عن دار الاعادي والحسود واطلب العليا وبالغ في الجهود لو يكون العز في غاب الأسود خير من دار تعيش بها ذليل *** اقطع البيدا على عوج النضا لو بها تمشي على جمر الغضا ما يفوت العمر قدام القضا دين عندك ليْن ياتيك العميل هكذا يقترح الوقداني الشام أو العراق فهما مهوى انظار أهل نجد أو من يتصل بالبادية من شرق الطائف ، ومن العراق التوجه شرقاً للديار الأسيوية كايران والسند والهند ، ومن الشام الاتجاه إلى تركيا وفلسطين ومصر ، أما أهل تهامة فشرق أفريقيا ، وقد تساهم رياح البحر في إخلاف الوجهة ، ومن هنا تفرق أبناء الجزيرة خارجها لا زهداً في الحياة بها وإنما لجلب الحياة إليها ، فالاغتراب يبدأ فرديا والعودة قد تكون مأنوسة بعد حين بعد أن يختار المغترب داراً بدار وأهلاً بأهل . والذل والهوان الذي أشار إليه الشاعر يحدث من السؤال أو تعطيل الكفاءة بالاعتماد على آخرين في إعالة من يقدر على العمل . ويتذكر الشاعر ما يحيط بالإنسان أحياناً من إحباط أو جفوة من أهله أو احتقار من مجتمعه فعليه أن يرحل مهما يكن الاغتراب حرماناً من نعيم يصاحبه ذل أو هوان . وفي قصيدة أخرى يجسد الوقداني ضيقه من مجتمعه ، متبرماً مما آل إليه هذا المجتمع من تفشي الحسد والحقد واخلاف الوعود ، وهو في هذه القصيدة يحاول معالجة أمراض المجتمع وتقلب الأيام : أيامنا والليالي كم نعاتبها شبنا وشابت وعفنا بعض الأحوال وقد بسط طبيعة ، الأيام بمنظار خبير ، ومشرط طبيب وأظهر استعصاءها عليه فلم يجد غير الرحيل والاغتراب عل فيه تبديل حال بحال وشر بخير : جربت الأيام ، مثلي من يجربها تجريب عاقل وذاق المر والحالي أعرف حروف الهجا بالرمز واكتبها عاقل ومجنون حاوي كل الاشكالي لكن حظي ردي والروح متعبها ما فادني حسن تأديبي مع امثالي ومع كل ذلك لم ينجح في مجتمعه ، ولم ينج من أمراضه فلم يجد حلاً غير الرحيل : خلِّ المنازل وقل للبين يندبها يبكي عليها بدمع العين هطالِ لا تعمر الدار والقالات تخربها بيع الردي بالخسارة واشتر الغالي ما ضاقت الأرض وانسدت مذاهبها فيها السعة والمراجل والتفتَّالِ صدقت أيها الوقداني لا تعمر البلاد والقلاقل تتنازع أهلها ، ولكن السعة التي تخبر ضَيَّقتها التأشيرات والتنظيمات الحديثة التي لم تكن في زمنك ، ولكن بلادك واسعة سعة مجالات العمل وطلب الرزق ، الناس يا بديوي وجدوا في ديارك الظل والدفء فوفدوا إليها من كل بلاد الدنيا . ويواصل الوقداني : دار بدار وجيران نقاربها وارض بأرض واطلال بأطلالِ والناس اجانيب ليْن انك تصاحبها تكون منهم كما قالوا بالامثالِ والارض لله نمشي في مناكبها والله قدّر لنا أرزاق واجالِ ثم يؤكد رأيه: حث المطايا وشرقها وغربها واقطع بها كل فج دارسٍ خالي واطعن نحور الفيافي في ترايبها وابعد عن الهم تمسي خالي البالِ إلى قوله: لومت في ديرة قفرا جوانبها فيها لوطي السباع الغبس مدهالِ أخَيْر من ديرة يجفاك صاحبها كم ذا الجفا والتجافي والتعلالِ هذه القصيدة من أجمل القصائد التي وردت للوقداني في كتاب «الازهار النادية من اشعار البادية» للاستاذ محمد سعيد كمال رحمه الله ، لما فيها من الحكمة والصور الجميلة والأفكار التي شهدها زمن الوقداني الذي توفى عام 1296. وإذا أمعنا النظر في القصيدة وربطناها بحياة الوقداني خامرنا الشك في دوافع إنشاء القصيدة ، فالوقداني من أهل البلاط الحاكم ومن المقربين إلى أمرائه ، إلى درجة تبسطهم معه ، ومنحه العطايا والهدايا ، فكم وقف أمامهم مادحاً أو مهنئاً بمناسبة سارة ، وكم عمر مجالسهم بمروياته وأشعاره ، ولكنها رؤية الشاعر وفكره ونظرته للحياة ينضدها في أبيات يطرح فيها خبرته وآراءه . ويبدو أيضاً أنه في سبيل المجاملة والدبلوماسية يضع نفسه أحيانا ارضاء لمن هو بينهم في مواقف لا تسره فيقول : دلَّلْت بالروح لَيْن ارخصت جانبها وانا عتيبي عريب الجد والخال قوم تدوس الأفاعي مع عقاربها ولها عزايم تهد الشامخ العالي رحم الله بديوي الوقداني فقد عاش كريماً ، وشاعراً مبدعاً ، قل أن يجود الزمان بشاعر مثيله .