تمنى لنا السائق حظا موفقا وانطلقت الشاحنة. وأنا أشد بيد علبتي الصغيرة وبيكوليني يشد بأصابعه الثلاثة الحية اليد الأخرى، فكرت فيما سنفعله. معي ليرات إنجليزية عملة جزر الأنتيل وبضع مئات من البوليفار (العملة المحلية) هدية بعض تلاميذي في المعتقل الذين علمتهم الرياضيات، ثم بضع لآلئ خالصة وجدتها داخل طماطم البستان الذي قمت بإعداده. سألتني الفتاة التي طلبت منا عدم أداء ثمن الرحلة، عن وجهتنا، فأجبتها أنني أبحث عن بيت صغير. «تعالا أولا عندنا، ثم نتدبر الأمر فيما بعد».. سرنا وراءها مارين من وسط الساحة وعلى مسافة أقل من مائتي متر وصلنا إلى زقاق ترابي محفوف بمنازل واطئة، مشيدة بالطين جميعها، ذات سقوف من التبن، والقصدير أو الزنك. توقفنا أمام إحداها. «ادخلا، هذا المنزل، منزلكما» قالت فتاة، في الثامنة عشرة من العمر. تركتنا ندخل أولا. ردهة نظيفة ذات أرضية من الطين المدكوك، طاولة مستديرة، بضع كراسي ورجل في الأربعين شعره أسود وناعم، قامته متوسطة، وبلون بشرة الفتاة، الآجوري الفاتح، عينان هنديتان. هناك أيضا ثلاث فتيات في الرابعة عشرة والخامسة عشرة والسادسة عشرة. «أبي، أخواتي، هاغريبان أتيت بهما إلى المنزل. خرجا من سجن الإلدورادو ويجهلان إلى أين سيتوجهان. أطلب منكم أن تحسنوا ضيافتهما». - أهلا وسهلا بكما. قال الأب، ثم كرر المعادلة المتداولة: هذا البيت بيتهما. اجلسا هنا، حول الطاولة. هل أنتما جائعان؟ هل تريدان القهوة أم الروم؟ لم أشأ أن أضايقه برفضي، فوافقت أن أشرب القهوة. المنزل نظيف، لكن من خلال بساطة الأثاث، شعرت أنهم فقراء. «ابنتي ماريا التي أحضرتكما هي ابنتي الكبرى. تعوض أمها التي تركتنا منذ خمس سنوات من أجل مرافقة باحث عن الذهب، أفضل أن أقول لك هذا قبل أن تسمعه من أشخاص آخرين». قدمت لنا ماريا القهوة. يمكنني إذن أن أنظر إليها بتمعن، لأنها جلست بجانب والدها، وأمامي بالتحديد. الفتيات الثلاث بقين واقفات خلفها، ينظرن إلي أيضا. ماريا فتاة مدارية، عيناها واسعتان مشدودتان قليلا إلى الطرفين، شعرها مجعد وأسود كالفحم، مفروق إلى نصفين منسدلا على كتفيها. ملامحها دقيقة، وإن كنا نحس أن لون جسدها الصقيل والنحاسي يدل على تواجد العرق الهندي في دمها إلا أنها لا تحمل أي سمات العرق المغولي. شفتاها موشحتان بأسنان باهرة. في بعض الأحيان تبرز طرف لسانها الوردي. ترتدي صدارا أبيض موشى بالزهور ذات عنق واسع يكشف كتفيها. ماريا لا ترتدي ليوم العيد سوى هذا الصدار والتنورة السوداء والحذاء ذي الكعب المسطح. مع أحمر شفاه لشفتين قرمزيتين وضربتين بالقلم على طرف العينين لتبدو أكثر اتساعا. هذه إزميرالدا (الزمردة) قالت مقدمة أصغر أخواتها. نسميها هكذا بسبب عينيها الخضراوين. وهذه كونشيتا والأخرى روزيتا، لأنها تشبه الزهرة. بشرتها فاتحة عكسنا نحن ووجنتاها تتوردان من أجل لا شيء. الآن أنت تعرف الأسرة. أبي يدعى خوسيه. ونحن الخمسة نشكل وحدة لأن قلوبنا تنبض نبضا موحدا. وأنت ما اسمك؟ - إنريكي (هنري بالفرنسية، وإنريكي بالإسبانية). - هل أمضيت وقتا طويلا في السجن؟ - نعم، وقتا طويلا. - أبي، ما العمل الذي يمكنه أن يقوم به هنا إنريكي؟ - لا أدري. هل لديك حرفة؟ - لا. - إذن، فلتذهب إلى منجم الذهب. هناك سيمنحونك عملا. - وأنت يا جوزيه ما هو عملك؟ - أنا، لا شيء. لا أعمل لأنهم يعطون أجرة سيئة. يظهر أنهم فقراء، هذا صحيح، لكنهم يرتدون ملابس نظيفة، ومع ذلك لن أتجرأ لأسألهم من أين يأتون بالمال لعيشهم. هل يسرقون من أجل ذلك؟ فلننتظر. «أنريكي، ستنام، هنا، الليلة» قالت ماريا. لدينا غرفة كان يشغلها عمي، لكنه رحل. يمكنك أخذ مكانه. نحن سنتكلف بالمريض خلال ذهابك إلى العمل. لا تشكرنا، لأننا لا نقدم لك شيئا. الغرفة شاغرة. لم أجد كلمات للتعبير. حملت علبتي الصغيرة. قامت ماريا ولحقها الآخرون إلى الباب. كذبت ماريا، الغرفة لم تكن شاغرة، فقد أخرجت منها أغراضا نسائية وحملتها إلى مكان آخر. تظاهرت بعدم الانتباه إلى الأمر. ليس في الغرفة سرير، لكن هناك ما هو أفضل. كما في معظم البيوت والأماكن المدارية: أرجوحتان شبكيتان من الصوف. نافذة واسعة مشرعة على حديقة مليئة بأشجار الموز. انغرست داخل الأرجوحة. وجدت عناء كبيرا للتحقق مما يحدث لي. مثلما كان اليوم من الحرية سهلا، بل أعظم سهولة. حصلت على غرفة مجانية وبيكولينو حصل على أربع فتيات جميلات يهتممن به. لم تركت نفسي تنقاد كطفل؟ لماذا؟ بالفعل أنا في أقصى العالم، لكني أظن أن سبب انسياقي لا يعود إلى هذا، بل لأنني كنت سجينا مدة طويلة ولا أعرف سلوكا غير الانصياع. لكنني الآن حر ويجب أن أتخذ قراراتي بنفسي. تركت نفسي تساق تماما كعصفور فتح قفصه وما عرف كيف يطير. يجب أن يبدأ التعلم من جديد. سأنام دون رغبة للتفكير في الماضي. بهذا وصاني الرجل البسيط في الإلدورادو. قبل أن أنام فكرت في حفاوة استقبال هؤلاء الأشخاص.. مقلقة ورائعة. تناولت في الإفطار بيضتين مقليتين وموزتين مقليتين مغموستين في الزبدة وخبزا. في الغرفة المجاورة تقوم ماريا بتنظيف بيكولينو. فجأة يظهر رجل أمام عتبة الباب متشحا بمدية متدلية من طرف حزامه، نوع من فؤوس الأدغال. «Gentes de paz» سلام عليكم! قال. وتعتبر هذه طريقة التواصل كصديق. - ماذا تريد؟ سأل خوسيه الذي كان يفطر برفقتي. - الرئيس المدني (رئيس قسم الشرطة المحلية) يريد أن يرى الكاينين. - لا داعي لأن تلقبهما هكذا، ناديهما باسميهما. - حسنا، خوسيه، ما اسماهما؟ - انريكي وبيكولينو. - السيد انريكي تعال معي. أنا شرطي، الرئيس من أرسلني. - ماذا تريدون منه؟ قالت ماريا، التي خرجت من الغرفة المجاورة. سأذهب معه. انتظر حتى أرتدي ملابسي. بعد بضع دقائق، أصبحت ماريا جاهزة، ونحن في الخارج سارعت إلى شد يدي. نظرت إليها مندهشا، فابتسمت. خلال وقت وجيز وصلنا إلى مركز الشرطة، حيث رجال شرطة آخرون يرتدون زيا مدنيا باستثناء اثنين يرتديان البذلة الرسمية. كانوا مدججين بمديات مربوطة إلى أحزمتهم. داخل قاعة مليئة بالبنادق يوجد رجل أسود يضع قبعة موشحة بالأوسمة. بادرني قائلا: - أنت الفرنسي؟ - نعم - والآخر؟ - مريض. أجابت ماريا. - أنا رائد الشرطة، من أجل خدمتكما ولمساعدتكما عند الضرورة. اسمي ألفونسو. - ومد كفه للسلام. - شكرا، اسمي إنريكي. - يا إنريكي، الرئيس يريد رؤيتك، لا يمكنك الدخول يا ماريا. أضاف عندما لاحظ رغبتها لمرافقتي. دخلت إلى الغرفة الأخرى. - صباح الخير، أيها الفرنسي. أنا الرئيس المدني. اجلس. ما دمت تقيم هنا إقامة إجبارية، استقدمتك، لأتعرف عليك، ولأنك أيضا تحت مسؤوليتي. ثم سألني عما أريد القيام به: أين أريد أن أعمل؟ تحدثنا قليلا ثم قال لي: «يمكنك زيارتي مهما كان السبب. أنا هنا لمساعدتك على ترتيب حياتك قدر المستطاع». - أشكركم. - أه هناك شيء آخر. يجب أن أنبهك إلى أنك تقيم لدى فتيات لطيفات جدا ونزيهات، لكن والدهن خوسيه قرصان حقيقي. إلى اللقاء. كانت ماريا تقف في الخارج أمام باب مركز الشرطة في وضعية الهنود عندما ينتظرون شيئا متجمدة دون حراك أو كلام مع أي أحد. ورغم أن ماريا ليست هندية، فهي على كل حال تحمل قطرات من الدم الهندي البعيد، الذي يطفو مبرزا الانتماء العرقي. دست يدها تحت ذراعي ثم مضينا مخترقين القرية بكاملها، لأننا اتخذنا طريقا غير التي سلكناها في البداية، لنعود إلى البيت.