«كتبت هذه القصة الحكم دفعة واحدة. من العاشرة ليلا إلى السادسة صباحا. [...] مكثت طويلا جالسا. وما كدت أسحب رجلي من أسفل المكتب حتى تجمدتا [...] يمكن أن يقال كل شيء، الأفكار جميعها. مهما كانت غريبة، فهي منتظرة بنيران عظيمة حيث تتلاشى وتتوهج. كيف أصبح كل شيء أزرق أمام نافذتي. سيارة تمر. رجلان يعبران الجسر. في الثانية نظرت إلى ساعتي للمرة الأخيرة. عندما عبرت الخادمة الممر، كنت أكتب آخر جملة.[...] وبهذه الطريقة فقط يمكن أن نكتب، بهذه الديمومة وبهذا الانفتاح الشامل للروح والجسد». فرانز كافكا بدأت يومي داخل غرفتي بالفندق بقراءة كافكا. ثم ذهبت إلى مقهى لوفر الذي يوجد بالرقم 20 في زقاق فرديناند بالطابق الثاني لمبنى عتيق ذي نوافذ زجاجية كبيرة تمنح المكان إضاءة جميلة. عندما جلست في أحد الأركان كانت نيتي أن أجد أثرا للاجتماعات التي كانت تعقدها الجماعة الملقبة بحلقة براغ. تتألف هذه الجماعة من كافكا وأصدقائه الكاتب فليكس ويلتش و أوسكار بوم و ماكس برود الذي كان يحضر لسماع مناقشات الصاخبة التي تثيرها استنتاجات الفيلسوف فرانز برنتانو. في الحقيقة كل شيء في براغ يحمل أثرا خلفه كافكا أو بالتحديد آثار المنتوجات المنحدرة من أعماله. يوجد كافكا في كل مكان على شكل تذكارات للاقتناء، لكنه حقا لا يوجد في أي مكان. كما في «المحاكمة» التي يبدل السارد ما في وسعه كي يستوعب أسباب المحاكمة التي يعيش أطوارها. أو أيضا في «القصر» حيث «ك» لم يتمكن أبدا، رغم مجهوداته كلها، من الوصول والدخول إلى القصر الذي يلوح أزليا، في البعيد. نعم منذ وفاته بسنوات أصبح الكاتب مجرد سلعة مبتذلة للاستهلاك، فالتحق بطريقة ما بهاري بوتر. أتساءل إن كان هناك من بين السياح المتدفقين بين أزقة المدينة القديمة من قرأ «القصر» أو «المحاكمة» أو «التحول». هذه التحف الأدبية التي ليست سوى قصص عجائبية على الأقل. يكتفي السياح بشراء قميص يستدعي ذكرى كافكا، أو حلية صغيرة على شكل دويبة صغيرة يجسد غريغورسامسا أو قطعة كريستال بوهيمي منقوش بطريقة فريدة يمثل رأس كافكا. وفي نهاية المطاف فهذه المدينة التي استنزفت بسرعة حياة كافكا فهي الآن لا تتوقف عن استهلاكه بطريقة أخرى. ولأن اليوم ابتدأ بكافكا، اعتقدت أنه من الأفضل الاستمرار في هذا الاتجاه لكن في الخارج بدأت الأمطار تلوح في الأفق، فأحسست أن لا رغبة لي في الخروج ولا في أدنى رغبة للتململ من مكاني، فواصلت إذن تدخين سيكاري التوسكاني واحتساء فنجان الكابوتشينو القشدي الساخن الذي يقدم بحسب الرغبة في مثل هذه المقاهي القديمة الزخمة بتاريخ أوروبا الوسطى. كان التوسكاني بطيئا وأشد صعوبة. كما أنه لا يتوقف عن الانطفاء فلم أتوقف أبدا عن إشعاله. يمضي الوقت بلطافة ولم أعد أفكر إطلاقا في كافكا. كنت قد اشتريت علبة التوسكاني من مطار باريس خشية عدم العثور عليه في براغ، غير أن خوفي لا أساس له. لأن كل شيء يوجد هنا. كما في باقي أنحاء العالم. يوجد كل شيء في براغ. يكفي أن تدفع المال. حذرني أصدقائي من أن براغ تتغير بسرعة مذهلة ونحو الأسوأ، كجميع العواصم الشيوعية سابقا، فإن براغ تتمركن «نسبة إلى أمريكا» وإذا لم أسارع إلى زيارتها، فسأصاب بالخيبة لاحقا. كانوا محقين، فكما حكوا لي البنايات الباروكية في المدينة القديمة اشتراها الأثرياء الأمريكيون الواحدة تلو الأخرى. أتمنى ألا يلقى بيت كافكا نفس المصير!. منذ قليل مررت أمام بيته. كانت الأبواب مغلقة كلها. واجهته متسخة وغير مرممة عكس البنايات الأخرى في الساحة حيث ينتصب نصب يا هوس. في هذا البيت الكئيب والقبيح المشيد بالحجارة الرمادية على ثلاثة طوابق ولد فرانز كافكا. على جانب من الحائط تمثاله النصفي، أسفله لوحة تشير إلى أنه ولد هنا عام 1883. وجهه ينظر صوب الساحة حيث أزقة المدينة القديمة تماما كما في قصيدة كفافي الشهيرة، يبدو أن كافكا ضل طريقه فقط بين متاهة الأزقة وشاخ هنا. في الواقع انتزع كافكا احترام العالم في اللحظة الأشد خصوبة من مراحل تجربته الإبداعية. قبل أن يطعن في السن، في الوقت الذي كان والداه على قيد الحياة: والده الذي يضطهده بلا توقف، وأمه التي لم تحمه كفاية. لكن ألم يكن كافكا نفسه شخصا غريب الأطوار؟ ولماذا العيش حياة أطول؟ هل كان داء السل الذي أهلكه معديا؟ في هذه الحالة كان سيطرد من طرف أسرته والمجتمع. تماما ك «غريغورسامسا»، الذي كان مخلوقا متروكا للعيش وحيدا في أحد أركان البيت خائفا من الجميع وحتى من أخواته. عندما مات كافكا كان عمره بالكاد واحدا وأربعين عاما عاشها في العزلة والمعاناة، تاركا عملا أصيلا سيعترف به بعد وافته. يبدو أن كافكا كان يستشعر المآسي جميعها التي سيعرفها القرن العشرون. وبخاضة الجحيم النازي حيث أحرقت أخواته الثلاثة وامرأة حياته ميلينا. لهذا كان غارقا في اليأس. بعد نشر بضع كتابات خلال حياته، أوصى صديقه ماكس برود بحرق باقي المخطوطات، رواياته، ويومياته. ولو أن هذا حدث فعلا، فلن يكون بوسعنا العثور على أدنى أثر لفرانز كافكا. هذا الكاتب المهووس الذي تجاهله عصره وعاش في براغ ما بين 1883 و 1924 جاب خلالها أزقة المدينة بلا كلل. باستثناء مراحل الاصطياف أو العلاج بالمصح وخلال رحلات لقاء خطيباته (دون احتساب الشهور الستة التي قضاها في برلين من أجل دورا ديمان) فقد عاش حياته كلها في براغ. ترك كافكا ضد التوقعات كلها آثارا عديدة في براغ والدليل على ذلك المنازل التي عاش فيها والمدارس التي درس بها والمقاهي حيث كان يجلس. وشركة التأمين التي كان موظفا بها، وكذلك ضفاف نهر الفلتافا والمسبح البلدي حيث مارس السباحة. لحظة ولادته كان كافكا تحت سيادة الامبراطور الهنغاري فرانسوا جوزيف، وعند وفاته أصبح مواطنا في الجمهورية التشيكية. يمكننا القول إن هذا التغيير العنيف لم يؤثر في كافكا، فهو في كل الأحوال لا يهتم كثيرا بالعالم الخارجي. ورغم ذلك ستتميز المرحلة التي عاشها بانهيار نظام قديم وولادة عالم جديد.كما عرفت المرحلة عنفا مهولا لم يعرفه التاريخ الأوروبي. لهذا السبب البديهي باشر كافكا سرده في «مستوطنة العقاب» كما لو أن كافكا حمل وزر جريمة حقيقية لم يشأ الاعتراف بها. كان كافكا متشائما بلا ملاذ أو مساعدة. ولد في بوهيميا من أبوين يهوديين وكان يكتب بالألمانية. منبوذا من طرف التشيكيين لأنهم يعتبرونه ألمانيا ومنبوذا من الألمانيين لأنهم يعتبرونه يهوديا ومنبوذا من طرف اليهود لأنهم يعترونه تشيكيا، وفي ذات الوقت عاش مسحوقا تحت سلطة والده هرمان، وبهذا عاش ذعرا دائما ومعاناة لا نهائية. ويمكن اكتشاف هذا الخوف وهذا الاغتراب وهذه الرغبة في العزلة وهذا اليأس العميق، ليس في كتابته فقط وإنما في المدينة التي عاش فيها. رغم أنها لا تتجلى إلا مضمرة في أعمال كافكا. يمكن أن نجزم أن براغ تظهر بشكل ألغوري أي بطريقة غير مباشرة. وها أنا الآن في أحد الأماكن الأليغورية في أعماله: «مقهى لوفر» وبصدد قراءة قصة «وصف صراع» التي تستدعي، لأول مرة، الأزقة والجسور والنصب والمطاعم، لبراغ الواقعية. في الحقيقة لا تظهر هذه ال «براغ» إلا في القسم الأول من الكتاب، لأن الكاتب يخترع بسرعة عالمه الخاص، عالم بمقياس مخيلته، يقود القارئ إلى ظلمات غابة وإلى متاهة سرود تتشابك فيما بينها. وبمعنى آخر من ينعته السارد ب «مرافقي» الذي يرافقه في أنحاء براغ كلها خلال ليلة ثلجية. هذا الظل المتمدد والنحيف «مثل عصا» ليس سوى قرين الكاتب. إنه الشبح الذي يستحوذه، ويسبب له إحساسا بالذنب والألم. ما الذي أوصلني إلى هذا الاستنتاج لأن السارد يحاول، ببساطة، الهرب من أسر هذا الظل الذي سيستسلم أمامه لا محالة. براغ بالنسبة لكافكا ستصبح مع الوقت مسرحا لمصيره، كما أعلن بنفسه عندما كان في عمر التاسعة عشرة ضمن رسالة وجهها إلى أوسكار بولاك حيث سيصرح أنه يحس ب «مخالب المدينة» تنغرس في لحمه. أفكر فيما حكاه ذات يوم لجاره البروفيسور فريدرشثيبيرغر: «ها هي الثانوية التي ترددت عليها وها هي الجامعة التي التحقت لاحقا لبضع سنوات. وفي هذه البناية اليسرى مكان عملي. قضيت حياتي كلها في هذا الحي». ومنذ مدة ليست بعيدة، علمنا من خلال مراسلاته التي كتبها لأسرته أن كافكا كان يتمنى بإلحاح الفرار من هذا الحي، ومن هذا المكان العقيم الذي أرهقه بمعاناة بين براغ وبرلين حيث ذهب مرات ومرات لزيارة (فليس بوير ) التي خطبها مرتين وفسخه الارتباط مرتين (برلين حيث سيقضي بها في النهاية ستة أشهر. أعترف أني لا أفهم إلى اليوم كيف أن كافكا وجد صعوبة لترك براغ والاقامة في برلين، لماذا بدا له الأمر " أشد عناء من حملة نابليون إلى روسيا" في حين كانت امرأة شابة ومحبة تنتظره. أعتقد بصراحة أن كافكا منذ طفولته الأولى، حتى دونما الارتباط الحميمي ببراغ، فإنه لم يستطع مغادرة سحرها كما أنه لم يستطع التخلص من الشبح الذي يستحوذه. وقد قال هذا في «رسالة إلى الأب» أنه لم يكن من السهل التخلص من صورة الأب الذي يحكم العالم جالسا على مقعده، ولا حتى القصر الذي لا يرمز للسلطة السياسية فقط ولكن إلى السلطة الأبوية أيضا. على غرار بودلير الذي يبحث عن مغامرات غرائبية مناديا: «Anywhere out of the WORLD» لكن مع الفرصة الأولى أوقف رحلته وعاد إلى باريس. كافكا أيضا يريد أن يفرد جناحيه، لكنه لم يتمكن إلا من اللجوء إلى العزلة داخل غرفته بغية اختراع عالمه الخاص تحت ضوء نور مصباحه. في الحقيقة كانت براغ مدينة ملعونة. مدينة الكيميائيين والسحرة والجلادين ذوي النظرة السوداء. ولهذه الأسباب بالتأكيد عبر كافكا منذ صغره عن رغبته في ترك مسقط رأسه.. يحفظ كافكا مدينة عشقه الأول، يحفظها عن ظهر قلب بجسورها وسفنها وأزقتها المعذبة وساحاتها الكئيبة... لكن براغ لم تطلق سراحه بل على العكس تناولته بين يديها، كطفل ضعيف وخائر، حضنته ثم خنقته في النهاية.