مثلما أن مفهوم الاستثمار التجاري لدى أكثرنا لا يتجاوز فكرة بقالة في ركن الحارة، تبيع بالآجل، المرطبات والصابون وعلب البزاليا وشرابا بديع الشكل عصيا على الفناء اسمه «غوار»!، كذلك فإن مفهوم العمل الخيري المرتبط بالإنفاق ووجوه الصدقة المختلفة يكاد ينحصر لدى الكثير من المنفقين والمتصدقين في شراء البرادات وتوزيعها على المساجد، أو بناء مساجد تضم المزيد من البرادات، أو في أشكال أخرى مشابهة من الأعمال الخيرية، تستحوذ في مجموعها على قدر غير يسير من مخصصات الصدقة وأعمال البر لدى الأفراد والمؤسسات، دون مساءلة للجدوى العميقة والأثر الأبعد للمضي قدما في المزيد من هذه الأعمال التي لا شك في فضلها وخيريتها، لكن بروز الفقر باعتباره ظاهرة اجتماعية تسترعي الاهتمام، وتحولات الوضع المعيشي والحياتي في المجتمع عامة، يجعل استئثار تلك الأعمال بالنصيب الأوفر من المال الخيري ضربا من الإنفاق غير المدروس أو المقنن، والذي ربما حاد عن المخول له من أهدافه ونواياه. فالمبلغ الذي يستثمر على سبيل المثال في تشييد مسجد أو جامع يتوسط عدة مساجد لا تفصل بينها إلا بضعة أمتار، ولا تحقق كثرتها الغاية الحقيقية للجماعة، يمكن له أن يكون نواة رأس مال لمشروع خيري تعود عوائده على عشرات الأسر المحتاجة والفقيرة، ويوفر فرص عمل للعاطلين، ويكون إسهاما مثمرا في تنمية الإنسان، في الوقت الذي لن يعدم فيه الناس المساجد والمصليات، خصوصا أن جهة حكومية رسمية تتكفل ببناء المزيد منها والإنفاق عليها بسخاء. وكذلك الحال في كثير من وجوه النفقة الخيرية التي لا تعدو أن تكون حلولا وقتية لاحتياجات متفاقمة، يعكس انتشارها وتكريس المزيد منها أزمة في ثقافة العمل الخيري، وربطه باحتياجات ومطالب العصر الملحة، والذي يرى تهافت الناس على سقيا المصلين في المساجد، تأخذه الدهشة وتبلغ به مداها حين يعلم أن من جيران المسجد من لا يجد قوت يومه أو قيمة كسوته أو سداد كهرباء منزله. غير أن غرس ثقافة العمل الخيري، ورفع مستوى الوعي في هذا السياق، ليس دورا فرديا بقدر ما هو مسؤولية مؤسسة، تجسدها لدينا باقتدار وزارة الشؤون الاجتماعية، التي يحسن بها أن تضع هذا الملف في أول اهتماماتها، وتكرس له الدراسات، وأن تستنهض عبر فروع جمعياتها الخيرية تطوير وعي الناس حول الاستثمار الأمثل لنفقاتهم، عبر إيجاد نوافذ حقيقية جديدة، ذات أثر ملموس وفاعل ونفع عام، أجدى بكثير من المراوحة الدائمة بين برادة ومغراف!.