يشهد العمل الخيري في بلدنا نموا لا مثيل له في أي بلد في العالم ، وذلك نظرا لوفرة الأموال في أيدي بعض المواطنين ، ورغبة بعض المحسنين في إخراج ما يتوجب عليهم امتثالا لما أمرهم الله به ( وفي أموالهم حق معلوم للسائل والمحروم ) و ( خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها ). ويشهد العمل الخيري تنوع الجمعيات التي تُعنى بكثير من الأنشطة الخيرية التي يقوم عليها في الأعم الأغلب متطوعون ، وتتدفق الأموال على تلك الجمعيات طوال العام ، لكنها تزيد زيادة لافتة في شهر رمضان. لكن هذا العمل دخله الصالح والطالح ، فهناك أناس يراعون الله فيما اؤتمنوا عليه وهناك آخرون لا يتوانون عن الإخلال بالأمانة ، فجعلوا العمل في الجمعيات وسيلة للكسب غير المشروع ، ومنهم من يستغل كونه من العاملين على الصدقات الذين نصّ القرآن على استحقاقهم لها فيأخذ أكثر مما يستحق . ولا ريب أن طرق أخذ الأموال وما يصاحبها من فوضى في تحصيلها وثقة بعض الناس فيمن تبدو عليه مظاهر التقى والصلاح ، سهّل على ذوي النفوس الضعيفة الولوج من هذا الباب للكسب الحرام ، فقد ورد في الصحف أن عاملين في مكتبة استطاعا تزوير أوراق رسمية مختومة بأختام مزورة لجمع التبرعات لجهات خارجية ، ولم يتوانَ عن ذلك العمل الشنيع إمام أحد المساجد الذي اختلس أكثر من مليون ريال من تبرعات إفطار صائم بتزوير سندات التبرع الخاصة بإحدى جمعيات البرّ وإيداع المبالغ في حسابه ، والمدهش أن ذلك المحتال يعمل في الجمعية منذ مدة قصيرة ، وهذا يؤكد أن العمل في الجمعيات فرصة لبعض ضعاف النفوس لأنهم يحضون بثقة مفرطة لمجرد أنه إمام مسجد أو يبدو في مظهر أهل الخير والورع ، ولاشك أن مسؤولية ذلك تقع في الدرجة الأولى على المتبرعين الذين تخدعهم وظيفة الشخص أو مظهره ، فيسلمونه أموالهم دون تحقق من أمانته ، أمّا الجمعيات الخيرية فإن مسؤوليتها تكمن في عدم تطبيقها معايير صارمة عند اختيار العاملين الذين يغريهم بريق الأموال وفرط الثقة بهم ، فيستحلون أموال الصدقات لأنفسهم. وهذه الأموال حق للفقراء لا يجوز الأخذ منها تحت أي مبرر ، وإذا كان قد أفتى بعضهم بعدم جواز استثمار أموال الصدقات في مشاريع قد تحول دون استفادة الفقراء منها في وقت حاجتهم إليها ، فما حكم أخذها دون وجه حق ؟ وكان أن سأل أحدهم قائلا : يتجمع لدى الجمعيات الخيرية أموال الزكاة ، وتكون كثيرة جداً لاسيما في شهر رمضان ، فهل يجوز للجمعية أن تقوم باستثمار هذه الأموال ، وتكون أرباحها للفقراء والمساكين ؟ فكان الجواب: يجب صرف الزكاة إلى أهلها المذكورين في قوله تعالى: ( إنما الصدقات للفقراء والمساكين والعاملين عليها والمؤلفة قلوبهم وفي الرقاب والغارمين وفي سبيل الله وابن السبيل فريضة من الله والله عليم حكيم ) "فالزكاة حق لهؤلاء الأصناف في مال الأغنياء ، فما دام أحد من هذه الأصناف موجوداً ، فالواجب أن يُدفع حقه إليه ، واستثمار أموال الزكاة يؤدي إلى تأخير دفع الزكاة إلى أهلها ، أو منع دفعها بالكلية ، إذا حصلت خسارة للمشروع وذهب رأس المال". واعتبر أحدهم أخذ أموال الصدقات بطريق غير مشروع من باب أكل الأموال من دون إذن وليها، وهذا باطل وظلم يدخل في الغلول ، وقد توعد الله من يفعل ذلك بقوله: ( ومن يغللْ يأتِ بما غلّ يوم القيامة ) والغلول: هو الكتمان من الغنيمة ، والخيانة في كل ما يتولاه الإنسان ، وهو كبيرة من الكبائر أجمع العلماء على تحريمه! وروى أبو هريرة " قام فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم فذكر الغلول فعظمه وعظّم أمره، ثم قال: " لا ألقين أحدكم يجئ يوم القيامة على رقبته بعير له رغاء يقول: يا رسول الله أغثني ، فأقول: لا أملك لك شيئا قد أبلغتك " ! فكيف يغيب هذا التحذير عن إمام مسجد يفترض أنه من أكثر الناس فهما واستيعابا لهذه المعاني؟ وكانت جهات رسمية قد حذرت في مطلع شهر رمضان بأن الأموال التي تُمنح للأعمال الخيرية ستخضع لرقابة مشددة ، وأنها سوف تتصدى لعمليات جمع أموال بطرق مخالفة ، وأن جمع أموال لإفطار الصائم يتم عبر كوبونات الجمعيات الخيرية المرخص لها ، وستكون الأموال تحت مراقبة مؤسسة النقد العربي السعودي. ومع هذا فإنه توجد بعض التجاوزات التي تصدر من بعض القائمين على الجمعيات ، وقد جاء في إحدى الصحف قول أحدهم " يبالغ بعض القائمين على الجمعيات الخيرية في الصرف على المناسبات والمرتبات وحتى على البناء والتأثيث ووسائل المواصلات ، حيث تقام أحياناً المناسبات في أفخم الفنادق وبأعلى الأجور وتقام البنايات وتؤثث بأعلى الأثمان ، وسقف الرواتب والبدلات مرتفع نسبياً ، وهذا كله قد يتم بقصد أو دون قصد ، لكنه برز كظاهرة خصوصاً أن مصدر هذه الأموال جهات وأشخاص لا يسألون عمّا تخرجه أيديهم من منطلق الثقة بمن يدير هذه الأموال فيتم استغلالها استغلالاً غير جيد دون رقابة أو محاسبة ... " ! وذكرت إحدى المحسنات أنها تبرعت بأثاث لجمعية خيرية وفوجئت به مفروشاً في بيت أحد العاملين في الجمعية عندما زارتهم بعد عام ومعها ملابس وأشياء أخرى تبرعت بها ، وذكر رجل أنه رأى ملابسه الشتوية التي تبرع بها يلبسها أحد العاملين في الجمعية من جنسية عربية! وهذا يؤكد أهمية المسارعة لسدّ كل الثغرات التي يعاني منها العمل الخيري بما يحقق الهدف منه ، ويحول دون استغلال أمواله فيما لا يعود بالفائدة المباشرة على المستحقين! ومن الأمور التي ينبغي أخذها في الاعتبار: 1- تفتقر بعض الجمعيات إلى أبسط النظم الإدارية والمحاسبية ، كما لا تعلن بعضها عن أعمالها المنجزة ومصروفاتها وحساباتها الختامية. 2 - معظم المحسنين لا يدققون ولا يسألون عن صرف أموالهم مكتفين بأن ما قاموا به حسب النية ، وحسن النية هنا هو الذي يشجع من لا ضمير عندهم على استغلال أموال الصدقات في غير وجهها ، المنفق أيضا مطالب شرعا بأن يبحث عن المحتاجين الذين يحسبهم الناس أغنياء من التعفف. 3- تفاوت تكلفة المشاريع وتنافس الجمعيات في ذلك حتى وإن كانت المشاريع في البلد نفسه ؛ فعلى سبيل المثال تعلن إحدى الجمعيات أن كلفة حقيبة المدرسة ثلاثون ريالا ، وأخرى أربعون ريالا ، وإفطار صائم عشرة ريالات في جمعية وفي أخرى خمسة عشر ريالا ! ، وقيسوا على ذلك قيمة الأضاحي وتحجيج المسلمين حديثا وكسوة الشتاء وغيرها ، مما يجعل المتصدق يقع في حيرة الاختيار بين تلك الجمعيات وأيها الأفضل والأجدر بالثقة. 4 - الصرف ببذخ على بعض الفعاليات من أموال الصدقات ، فقد رعت إحدى جمعيات البرّ مخيماً صيفياً ضخماً من فئة العشر نجوم ، وكانت الراعي الرسمي الوحيد وهذا كلفها مبالغ طائلة من أموال الصدقات التي ما كان ينبغي لها أن تصرف على خيمة فارهة ، وكان يمكن أن تمولها جهة غير جمعية برّ. ومثل ذلك الصرف على الولائم الموسمية التي تقام في رمضان ويُدعى لها مئات من السفراء وبعض النخب ، مما يتطلب نفقات باهضة ! وذلك دعاية لمشاريعهم ورغبة في كسب تعاطف المدعوين ، الأمر الذي يمكن تحقيقه عبر منشورات وبطاقات تهنئة بالشهر الكريم بدلا من صرف أموال الصدقات على تلك الولائم المكلفة. 5- اقتصار بعض الجمعيات على أنشطة محددة مثل بناء المساجد وتجهيزها ، بينما توجد في بلادنا مناطق يعاني أهلها من الفقر المدقع حدّ سكنهم في خيام وغرف من الصفيح ، وتشييد مساكن لهؤلاء ، وإقامة مشاريع لتدريب الفقراء وتعليمهم حرفة تقيهم الحاجة وتساعد على تأهليهم للعمل في المصانع وغيرها ليعتمدوا على أنفسهم ، ويعتادوا على الكسب الحلال - مما يساعد على تضييق مساحات الفقر ، وتوفير الأموال لتنمية مناطقهم - ومساعدة اليتامى والأرامل والمرضى والعجزة . كل هذا لا يقل أجره عن بناء المساجد ، التي يبالغون في مساحاتها الأمر الذي يضفي أعباء أخرى تتمثل في تكاليف تشغيلها وصيانتها الدورية ، ورب قائل يقول إن فضل بناء المساجد لا يعدله فضل ، وهذا صحيح لكن بعد أن تُستوفى كل المرافق التي يحتاجها الفقراء ليعيشوا حياة كريمة! 6 - الصرف ببذخ على أمور استهلاكية سرعان ما يذهب مفعولها كمشاريع إفطار صائم ، إذ توزع على أشخاص قد يكونون غير مستحقين ، وإن كانوا مستحقين فمعظم المساجد تقام فيها موائد إفطار ، وقد وصلت تبرعات إفطار الصائمين هذا العام إلى 1500 مليون ريال كانت كفيلة بإقامة مشاريع أخرى أكثر جدوى وديمومة. 7 - كثير من العاملين في الجمعيات متطوعون وليسوا موظفين تحكمهم قوانين الإدارة ونظمها وأعرافها ، مما يصعّب مساءلتهم ومحاسبتهم ، وهذا الأمر فتح الباب على مصراعيه لبعض ذوي النوايا السيئة. 8 - سهولة تزوير السندات التي تصدرها الجمعيات مقابل المبالغ المتبرع بها ، تشجع المحتالين على نهب أموال الصدقات ، فكم من محتال لم يكشف عنه بعد؟ ومع أنه قد صدرت تعليمات حكومية للجمعيات الخيرية لتلافي الملاحظات المالية والإدارية التي ترصد على تقاريرها السنوية خلال شهر من تاريخ خطاب جهة الإشراف ، وقيام وزارة الشؤون الاجتماعية بالترخيص لعدة مكاتب لإجراء مراجعة شاملة لجميع العمليات المالية للجمعيات ، وتزويدها بتقارير ربع سنوية عن تلك الجمعيات ، كما ألزمت الجمعيات الخيرية بتعيين أمين صندوق من أعضاء مجلس الإدارة يكون مسؤولا عن تسلم المبالغ النقدية التي ترد للجمعية وتكون السندات المختلفة ودفاتر الشيكات في عهدته . وهي بصدد إنشاء مشروع لقياس قدرة الجمعيات الخيرية على استيعاب أموال التبرعات ، وذلك لتصنيف نحو خمسمائة جمعية خيرية ، وإلزامها بوضع خطة عمل لا تخرج فيه عن الأهداف المرسومة! إلا إن العمل الخيري يحتاج كثيراً من الضوابط التي تنظمه وتحول دون استغلاله من قبل ضعاف النفوس ، وذلك لزيادة ثقة المحسنين به وحماية لحقهم في وصول زكاتهم وصدقاتهم لمستحقيها.