يتطلع كل مواطن إلى اليوم الذي تصل فيه الرعاية الصحية في بلادنا الى نفس مستواها في الدول المتقدمة، لكن تلك الدول لم تصل إلى ما وصلت إليه من مستوى راق إلا بناء على تصور واضح ونظام متكامل للرعاية الصحية أثبتت برامجه نجاحا على أرض الواقع. وحتى نحقق ما نطمح إليه فإن علينا أن ندرس البرامج التي قامت بها الدول المتقدمة في مجال الرعاية الصحية حتى وصلت إلى تلك المكانة المرموقة. وأذكر في ما يلي بعضا من أهم تلك البرامج: 1- تعزيز صحة المواطن Health Promotion من خلال وسائل عديدة: سواء بإضافة مادة الفلورايد في مياه الشرب لحماية المواطنين من تسوس الأسنان، أو بتنفيذ البرامج الصحية والرياضية في المدارس، أو بإنشاء الصالات والنوادي الرياضية المجانية في كل حي من الأحياء، أو غير ذلك. 2- الاهتمام بالوعي والتثقيف الصحي: بما يشمل حث الناس على تبني نمط حياة وممارسات صحية سليمة من أجل رفع المستوى الصحي للمجتمع، وتعليم الناس العادات الصحية السليمة بدءا بالنظافة الشخصية حتى كيفية تغذية أبنائهم.. وكانت النتيجة جيلا من الشباب النشط القوى جسديا، وقد انخفضت فيه معدلات الأمراض إلى أدنى درجة ممكنة. 3- الاهتمام الشديد بالطب الوقائى، عملا بمبدأ «درهم وقاية خير من قنطار علاج»، بإعطاء هيئات الطب الوقائي صلاحيات غير عادية مع درجة عالية من الاستقلال، وإعطاء أولوية قصوى لتتبع أي حالة عدوى واتخاذ كافة الاجراءات التي تمنع انتشار الأمراض، حتى انخفضت بشدة معدلات الأوبئة والأمراض المعدية، وكاد بعضها يختفي. 4- الحرص على تقديم الرعاية الأولية لجميع المواطنين، فأنشأوا مراكز رعاية صحية أولية في كل حي من أحياء المدن، وفي كل ركن من أركان الدولة حتى أصبحت الرعاية الأولية تغطى 90% من الحالات المرضية وبأقل تكلفة ممكنة. 5- تمكين المريض من الوصول إلى العلاج بيسر وسهولة ودون أى تعطيل أو تعقيد، بدءا من سهولة تسجيل المرضى، إلى تبسيط اجراءات الوصول إلى المستشفيات والمراكز العلاجية. 6- تأسيس نظام صحي وطني شامل بحيث لا يكون هناك تباين كبير في مستويات العلاج ما بين منطقة وأخرى في نفس الدولة، فحرصوا على تقديم نفس المستوى من الخدمة الطبية والتمريضية والادارية في جميع المناطق، فارتفع مستوى العلاج عموما ولم تعد هناك ضغوط كبرى على المستشفيات المركزية. 7- إعطاء أولوية قصوى للتخطيط وأنظمة المعلومات، حيث إن التصور السليم والمعلومات المستوفاة والخطط المدروسة هي أهم أسس النظام الصحي بأكمله، فأصبحت هناك متابعة واقعية وتقييم دورى وتخطيط منهجى، وانعكس كل ذلك في نتائج ملموسة على أرض الواقع. 8- الحرص على تميز القائمين على الرعاية الصحية بالكفاءة الادارية، فشجعت الأطباء على دراسة العلوم الادارية بدءا من وجود أقسام للإدارة الصحية في كليات الطب، حتى تعيين الأطباء الذين يدرسون الادارة الصحية على وظائف قيادية ومرموقة. 9- أما بالنسبة للمنشآت الطبية فإن القاعدة هي استخدام الموارد المالية دون تبذير، مع التخطيط الصحي والمالي السليم، حتى تعود تلك المنشآت بأعلى فائدة ممكنة للمجتمع. ولا شك أن كثيرا ممن سافروا من بلادنا إلى أكبر المنشآت الصحية المشهورة عالميا فوجئوا بمدى بساطة المباني وغرف المرضى في تلك المنشآت ذات السمعة العالمية، بل وتعجبوا أكثر عندما وجدوا أن بعضا من تلك المراكز العالمية تقع في قرى أو مدن صغيرة بعيدة عن العاصمة، علما بأن تجهيزات تلك المستشفيات أساسها الحاجة الفعلية، مع إعداد ميزانية استباقية لاستبدال ما يتم شراؤه من تجهيزات طبية فور الحاجة لذلك. 10- ولعل الأهم هو أنه ليس هناك في الدول المتقدمة تقارير براقة عن «انجازات عظيمة»، وإنما هناك دائما حوار صريح يدور حول القطاع الصحي ومشاكله وجوانب القصور فيه، فلا تبقى المشاكل «مخفية» دون نقاش أو معلقة بلا حل. تلك هى الأسس العملية التى يقوم عليها نظام الرعاية الصحية Health Care System في الدول المتقدمة، فماذا أنجزنا نحن منها؟ لم نهتم بوسائل تعزيز صحة المواطن، ولا بالوعي والتثقيف الصحي، ولا بالطب الوقائي، ولا بالرعاية الأولية، ولا بوصول المريض إلى العلاج بسرعة وبسهولة، ولا بالتخطيط الصحي، ولا بتأهيل القيادات، وانصب اهتمامنا على مشاريع صحية متناثرة بدلا من الاهتمام بتأسيس نظام صحي وطني شامل. وبدلا من ذلك أنشأنا «مدنا طبية» عملاقة لا يحلمون بمثلها في بلدان الأجانب، ومنشآت علاجية فاخرة هي أقرب إلى القصور منها إلى المستشفيات. وكثيرا ما وضعنا داخل تلك المنشآت من الأجهزة الطبية باهظة الثمن ما يفوق حاجتنا بعدة أضعاف دون أن نقدر على تطوير الخدمة، ولا حتى على استبدال الأجهزة بسهولة عندما تنتهي صلاحيتها. وفى نهاية المطاف غطينا كل ذلك بتقارير براقة عن «انجازات عظيمة»، فبقيت المشاكل مخفية بلا نقاش، أو معلقة بلا حل. وقد بدأنا نجني ثمار هذا القصور. معالي وزير الصحة.. إن ما حدث قد حدث، وعلينا أن نتعلم منه، ولا شك أن عدوى فيروس كورونا قد نبهتنا جميعا إلى أهمية مراجعة الخلل في القطاع الصحي. ولا شك أن القطاع الصحي في أمس الحاجة إلى تلك المراجعة. وقد آن الأوان أن نقف وقفة صادقة مع النفس ونراجع ما فعلناه في السابق، ويجب أن تفتح المراجعة الأبواب لتصحيح المسار. وآن الأوان أن نعمل على بناء نظام صحى متكامل نفخر به أمام العالم.