قلت إنني قد تأخرت في قراءة أعمال غابرييل غارسيا ماركيز الروائية.. وكانت بدايتي معه متأخرة.. إذ لم أقرأ له قبل مذكراته (عشت لأروي)، ط1، 2003م، بجزئيها. ولكني آليت على نفسي أن أقرأ خلال عطلة العيد ما لدي له من أعماله وعددها ثمانية كتب. العمل الذي شدني واستمتعت بقراءته هو عمله الرائع (الجنرال في متاهته) مؤسسة عيبال، ط1، 1989م، ترجمها عن الإسبانية صالح علماني، إذ استحضر تاريخ بطل تحرير أمريكا اللاتينية سمون بوليفار (1782 1830م) من الاستعمار الإسباني.. وقد حرص على تتبع رحلته في أيامه الأخيرة مع عدد محدود من مرافقيه، وهو يعاني من المرض والخذلان، وكان هدفا لمكايد سياسية وعسكرية، فبقدر ما يستقبل من الشعب ويشاد به كبطل وكمحرر لأمريكا اللاتينية كلها من المكسيك وحتى فنزويلا وكولومبيا وهاييتي والبيرو وليما وجامايكا وبنما وغيرها. وقد نالت جمهورية بوليفيا استقلالها بسببه عام 1825م من الحكم الإسباني، وسميت الدولة الجديدة بهذا الاسم تخليدا لذكرى الجنرال سيمون بوليفار، وهو كما تقول الموسوعة العربية العالمية «الجنرال الفنزويلي الذي ساعد بوليفيا وعدة دول أمريكية أخرى على التحرر من الحكم الاستعماري الأسباني». لقد كان الجنرال يحلم بتوحيد أمريكا اللاتينية. وكان يكرر دائما عبارته الشهيرة «سيكون لدى أعدائنا فرصة التفوق دائما ما دمنا لم نوحد حكومة أمريكا»، وكان قد نذر نفسه لهذا العمل، فنجد الجنرال دييغو يبارا يقول: «إن الجنرال بوليفار لم ينجب أي ابن، لكن مع ذلك هو أب وأم لجميع أرامل الأمة». فعندما قابلته الأرامل على ضفاف نهر الكاريبي في أيامه الأخيرة قال لهن «الأرامل الآن نحن. إننا يتامى ومغبونو ومنبوذو الاستقلال». فكان يربط الاستقلال بالوحدة ويصر عليها، فعندما قال له أحدهم: «ها نحن أولاء قد نلنا الاستقلال أيها الجنرال، فقل لنا الآن ماذا نفعل به»، فرد بقوله: «الاستقلال مجرد مسألة كسب حرب. التضحيات الكبيرة ستأتي فيما بعد، لجعل هذه الشعوب وطنا واحدا». فيرد عليه: «التضحية هي الشيء الوحيد الذي فعلناه أيها الجنرال»، فيرد عليهم: «ما زلنا بحاجة إلى المزيد، فالوحدة لا تقدر بثمن». ورغم ما يعانيه من مرض وخذلان وهو في طريقه إلى المنفى، حتى جاء من فنزويلا الضابط البحري خوسيه توماس ماتشادو، حاملا أخبارا عن أن عدة وحدات عسكرية قد سحبت اعترافها بالحكومة الانفصالية، وعن أن حزبا جديدا مؤيدا للجنرال بدأ يكسب قوة كبيرة، استقبله الجنرال على انفراد، واستمع إليه باهتمام لكنه لم يبد أي حماس. وقال له: «الأخبار جيدة، لكنها متأخرة. أما بالنسبة لي شخصيا، فما الذي يستطيع عمله عاجز مسكين مثلي في مواجهة عالم بأسره». وقال: «لا أنتظر تحسن صحة الوطن». وكان يحلق ذقنه بنفسه، وقد جرح نفسه. فجاءوا بصيدلي لمعالجته فرفض قائلا: «دعني بحالي، فاليأس هو الصحة للخاسرين». وقد طلب منه محبوه أن يكتب مذكراته وكان يرد عليهم رافضا: «مطلقا. هذه اهتمامات أموات». وكان الديماغوجيون الرافضون للوحدة الاندماجية يقاتلون ضدها حتى الموت؛ لأنها مناقضة لامتيازات الأسر الإقليمية الكبيرة، فكان الجنرال يقول: «هذا هو السبب الحقيقي والوحيد لحرب الانقسامات التي تقتلنا، والمحزن في الأمر هو اعتقادهم أنهم يغيرون العالم، فيما هم لا يفعلون شيئا سوى تخليد أشد ما في الفكر الإسباني تخلفا». وعندما عرض عليه الجنرال بريثينو مينديث العودة لتولي القيادة قال له: «لم أرض القبول بالقيادة التي أولتني إياها التقارير؛ لأني لا أريد أن ينظر إلي على أنني زعيم متمردين، وبأنني معين عسكريا من قبل المنتصرين» وقال: «لا يمكن خداع الشعب في مثل هذه الحالات، إنما لم تكن هناك أية إمكانية لقبول الرئاسة. والشيء الوحيد الذي يستطيع تقديمه هو استعداده للعودة إلى سانتافي ليخدم الحكومة الجديدة كجندي عادي». وعندما تحدثوا عن الحاجة للقروض، وشراء السندات قال لهم: «إنني أمقت القروض أكثر من مقتي للأسبان؛ لذلك نبهت سانتا نير إلى أن كل ما تفعله لخير الأمة لن ينفع شيئا إذا ما قبلنا الديون؛ لأننا سنبقى ندفع فوائدها إلى أبد الآبدين، وها نحن أولاء نرى الأمر بجلاء الآن: لقد هزمتنا الديون». لقد بذل ماركيز الكثير لجمع المعلومات وفحص الوثائق والمذكرات المخطوطة واليوميات لعدد كبير ممن رافق الجنرال أو حاول أن يؤرخ لهذه الفترة (1810 1830)، وبعد مائة وخمسين عاما يبدأ ماركيز جادا في تجميع الخيوط وإعادة نسجها ليخرج للعالم تاريخ بطل تحرير أمريكا اللاتينية. لقد كان يسمع خلال سنوات طويلة أن هناك من يحاول أن يكتب عن رحلة سيمون بوليفار الأخيرة في نهر مجدلينا، وبالذات (الفاروموتيس) الذي كان يحدثه عن مشروعه الذي طال انتظاره.. وقال ماركيز: «.. عندئذ فقط تجرأت وطلبت منه أن يسمح لي بكتابة العمل، وكانت رمية صائبة بعد ترصد استمر عشر سنوات، لذلك فإن شكري الأول موجه له..». وقال إنه خلال دراسته قد مخر النهر (مجدلينا) إحدى عشرة مرة في الاتجاهين في تلك السفن البخارية.. وأنه قد حرص على هذه الفترة؛ لأنها الفترة الأقل توثيقا في حياة بوليفار.. ولهذا نجده يقول: «لم يكن إنجاز هذا الكتاب ممكنا دون عون من طرقوا تلك المجاهل قبلي، على امتداد قرن ونصف قرن، وسهلوا علي المجازفة الأدبية برواية سيرة حياة تعتمد التوثيق الصارم، دون التخلي عن قوانين الرواية التي تخرق كل القوانين».