اتفقنا، منذ البدء، على أن موضوع تكوين شخصية عبقرية في عالم الفن أمر يتطلب الكثير من الجهد والعطاء، وقبل هذا وذاك الاستعداد من أجل صناعة النجاح، واتفقنا جميعا من قبل أن الأرضية المتوافرة إلى ما لا نهاية عند محمد عبده جعلت منه صانعا للنجاح وممثلا للفن الغنائي والموسيقى السعودية، ليس لدى الآخرين فحسب، بل والأكثر تأثيرا على وجدانهم النابض والمتعامل مع الإبداع الفني والموسيقي، منذ انطلاقته مغنيا سعوديا في حفلات «أضواء المدينة» وغيرها في مصر، في نهاية الستينيات الميلادية، برعاية واهتمام وإيمان بموهبته من كبار القائمين على هذه الأنشطة هناك مثل وجدي الحكيم، عندما شدا محمد عبده بأول أغنياته الجماهيرية لسياح مصر من خليجيين وغيرهم «يا مركب الهند.. يا بو دقلين» وشقيقاتها، وهذه الأغنية التي تمثل تراثا غنائيا في المنطقة استخدم مطلعها الأمير الشاعر بدر بن عبدالمحسن ليكتب بناء على المطلع نصا جديدا يومها لفت اهتمام العرب فنانين ونقادا وجماهير، كما أن كان لمحمد عبده إيجابية تلحين هذا النص بلحن قارع اللحن التراثي لها، وطالما أننا في السياق ليس من غير الضروري والهام أن ننوه عن انطلاقته الثانية والأكثر فاعلية في الحفلات العربية له في مصر بأغنية «الرسائل» وشقيقاتها أيضا للأمير بدر وألحان محمد عبده الذي أبدى عظمة وجلالا فنيا في كوبليهات هذا العمل ومنها «.... وليلة ذكرها يبقى». الذي أريد قوله أن محمد عبده ارتبط بذائقة الكبار من ممارسي فن الأغنية في المملكة، وتحديدا في «الحجاز»، عندما كان تلميذا نجيبا للموسيقار الراحل عمر كدرس، بل وتأثر به كثيرا وتبع من ما يردده الكدرس من أعماله وما للكبار من مجسات ومواويل وتمهيدات وأغنيات، يومها عشق محمد عبده طريقة غناء سعيد أبو خشبة، وما زال يردد حتى اليوم غناءه ومجساته وطريقة «المجس» المميزة جدا لدى سعيد أبو خشبة الذي يعد أستاذا لأبناء جيله من المنشدين والمغنين والجسيسة ومؤديي الدانة المكية، إذ إن كل فناني ومؤديي «الدانة» المكية هم من يؤدي المجس والغناء التراثي بحكم أن المجس والدانة يشترط في أدائهما الاعتماد على النص الفصيح ولا غيره «وللتدليل على أغنيات إيقاع الدانة أغنية أو ابتهال أو إنشاد سمها ما شئت كانت دانة أهيم بروحي على الرابية وعند المطاف وفي المروتين، شعر طاهر زمخشري، وألحان وأداء الموسيقار العميد طارق عبدالحكيم رحمهما الله»، ثم أخذ من هنا محمد عبده التميز والبحث في عيون القصائد والشعر العربي عن تلك الأبيات الشعرية التي يعتقد أنها صور وجدانية تتناغم مع أكثر الأطياف ارتباطا مع الفن والأغنية المثقفة إن جاز لنا التعبير من مستمعيه. ومن الذين استلهم محمد عبده من أدائهم للغناء التراثي كان محمد علي سندي فناننا الكبير الذي كان إحدى حلقات الوصل بين حقبتي الفن التراثي الذي كان في الغالب جماعي الطابع، وبين جيل الحداثة والأغنية السعودية الفردية المتضحة الملامح منذ عهد الريادة في هذا اللون وخروج الأغنية السعودية إلى خارج الأطر المحلية والإقليمية بملامح سعودية سعودية. ومما يحكى عن علاقته مع مبدع كبير في هيكل ومحراب الفن الغنائي المرتبط بالتراث السعودي محمد علي سندي، هناك الكثير من المواقف التي كانت تدور بين محمد عبده ومحمد علي سندي كلما التقيا في مناسبة أو حفل أو جلسة غنائي أو مناسبة لها علاقة بالموسيقى «وهل يلتقيان دون أن يكون الفن والموسيقى ثالثهما» عندما يجل الأول الثاني ويصنع له احترام المقام بين أبناء جيلين مختلفين. وطالما تحدث محمد عبده عن أيام وليالٍ جمعته مع السندي «أبو طه» داخل المملكة؛ مثل حفلات الأندية، وعلى وجه الخصوص حفل النادي الأهلي عندما فاز بالدوري والكأس في موسمي 1976، 1977، وخارجها عندما شاركا معا في الأسابيع الثقافية السعودية هنا وهناك، ولعل أبرزها تلك التي كانت في الحفلات الغنائية في الأسابيع السعودية التي أقيمت في الجزائر ومصر واليمن والمغرب. وكثيرا ما كانا يتمازحان، فمحمد عبده سريع بديهة، إلا أنه لا يطلق الرد الظريف إلا بعد التأكد بينه ونفسه، أما السندي فإنه يعلق على أي كلمة في حوار أو جلسة حتى لو كان ذلك من تحت السرة «وهذا تعبير مجازي في الحجاز نطلقه على من يرمي الكلام الذي لا يجب أن نقوله بين العوام». فمرة قال محمد عبده للسندي (وهو يجالسه في هذه الصورة التي تجمعهما في حفل): "هاااااا يا بو طه تحب تسمعني أنا اليوم وإلا طلال مداح أكثر»، وكان محمد عبده في تلك المرحلة قد نال وهجا كبيرا وتحول بالأغنية إلى أعالي المراتب من النجاح في الساحة السعودية، بل وتجاوز أستاذه طلال مداح في مراحل مراوحة كبيرة بينهما، قال السندي رحمه الله: "كلاكما عينان في رأسي»، فضحك محمد عبده ورد السندي: «ليش تضحك»، وهو يلقي نظرة «مكاوية ساخرة» نسميها في مكةالمكرمة «تشميقة»، فواصل محمد عبده بقوله: طيب.. يا بو طه انت عندك عين تشوف والأخرى ياااااادوب «.... طشاش» أي عين أنا وأي عين طلال ؟! ففهمها وضحك أبو طه ضحكته المميزة، وقال لمحمد عبده: «دحين انت ما تفكك من الفراخة». ومحمد علي سندي من فناني مكةالمكرمة الكبار المرتبطين بالتراث، ولد في العام 1323 وتوفي في الخامس من شهر صفر 1406 (19 أكتوبر 1985). بدأ حياته الفنية متأثرا بالفنان الكبير محمد عبدالوهاب. وكان يتغنى في جلساته الفنية في مكةالمكرمةوجدة بأغنيات واسطوانات عبدالوهاب إلى أن اتخذ لنفسه مسارا خاصا في الغناء «الأغنية الشعبية في مكةالمكرمة»، وعلى وجه الخصوص تلك التي تعتمد على الفصحى، والتي كان من أشهرها «نالت على يدها ما لم تنله يدي» ليزيد بن معاوية، وأراك عصي الدمع لأبي فراس الحمداني، كذلك من أشهر أغنياته «على العقيق اجتمعنا، ماس وردي الخد». سألته مرة عن أبرز ألحانه من بين ما قدم، صمت فترة ليقول لي بعدها: «اسمع يا ولدي كل هذا الذي تستمع إليه مني أصوله التراث الغنائي والموسيقي في مكةالمكرمة والحجاز بشكل عام، وأقوم أحيانا بإعداد بعض هذه الألحان من التراث. وأنا ليس لي لحن إلا واحد هو لأغنية رمضانية لحنتها وسجلتها لإذاعة جدة، أما الباقي كله أغاني تراث. تستطيع أن تسميني إذا أعجبك عملي في الحياة الفنية فقط (مجرد ناقل أمين) لتراث الأجداد، إذ إنه لكل أرض وأمة تراثها الغنائي».