لم تكن البشرية بمعزل عن تسويغ أفعالها وتبرير أخطائها منذ تجرأ قابيل على قتل أخيه هابيل كون الله تعالى تقبل من أحدهما ولم يتقبل من الآخر، ولعلماء الكلام جدل كبير حول قضية شائكة تتعلق بالقدر السابق فعل الإنسان والمحجم اختياراته لنفسه وبين الجبر الذي يغدو معه البعض ريشة في مهب الريح، هذا الإشكال المحير يولد سؤالا عن ثقة البعض بنفسه وانتخابها مخلصا للمجتمعات برغم ضعف القدرات وتغييب الواقع بكل معطياته ورفض مبدأ التعددية المؤصل في فطرة الخلق لحكمة أرادها الخالق، وقبل الحديث عن التطرف يحضر التأطير النظري للمصطلح قبل استعادة تجلياته في الواقع، فالتطرف بتعبير سهل مجانبة الاعتدال وتنصيب الأنا منقذة مما يراه المتطرف تخبطا وانكفاء عن الصواب من وجهة نظر أحادية وحادة ترعرت في محضن تزكية الذات والشعور بالتميز وإن وهميا تغذيه عوامل وبواعث منها الخطابات والبيئة زمانا ومكانا والثقافة الاجتماعية مع عدم إغفال الجينات الوراثية، وباعث التطرف عموما شعور مبرر أو مبرر بغبن ما يضاعفه ويفاقم آثاره القلق الوجودي والنظرة التشاؤمية المورطة في فخ فقدان الأمل والعجز عن العمل الإيجابي والخلاق وبمجيء النصوص الدينية والأطروحات الأيديولوجية تعززت المكانة الشرعية للتيارات الحركية وغدا حمل السلاح والقتل مبررا عند البعض بتأويل سائغ ضال أو قاصر وأحيانا عاجز عن فهم دلالات ومآلات النص القرآني والنظرية المعرفية، والسياقات التاريخية تعطي صورة منمذجة للممارسة المتطرفة التي تحاول في مطلع اختياراتها أن تتصدى للحراك المجتمعي المدني وتحاول قولبته وفق مرئياتها المؤدلجة ليتولد الصراع الأولي مع الأسرة والأب تحديدا في محاولة لكسر سلطة الوصاية والتحرر من الأبوية القاهرة، وبمرور الوقت وبكسر تابو المجتمعي والتطاول على رموزه يعلو الصوت المتطرف لينتقد الثقافة والفكر غير المتساوقين مع نفسية ورؤية الغلاة الطوباويين، ليأتي في مرحلة لاحقة التجرؤ على الدولة والكيان الآمن للمجتمعات ونعته بما فيه وما ليس فيه لتبرير الخروج على السلطة الشرعية واقتناص فرص الظفر بمغانم وصلاحيات تحت مظلة موهمة بالشرعية في ظل تغييب النسبية، وربما غاب الشعور بالعدل مع المخالف انطلاقا من مبدأ الغايات تبرر الوسائل، ولم نكن في وطننا السعودي بمعزل عن الاجترارات التاريخية والاتكاء على الخلاف لتمرير أجندة تفرق ولا تجمع وتفرز ولا تقارب وتجهض ولا تولد إلا الخلاف والانشقاقات والنكوص بالمجتمع إلى أتون الحرب والاقتتال وإلغاء مفهوم التنمية والإصلاح المدنيين، وربما لم يدر بخلد المتطرف حين ينازع الأمر أهله أنه يلغي دور الحاكمية لله وأنه تعالى يهب الملك من يشاء وينزعه ممن يشاء فالتجاوز عند المتطرفين تجاوز على ذات الله وصفاته وقضائه وقدره واستعجال للكفر بنعمتي الأمن والتأمين من الجوع، وبما أن العقلاء ينتهجون مسار الاستدلال والحوار بالحسنى ومحاولة الإصلاح ما أمكن إلا أن المتطرفين يذهبون إلى فرض القناعات بقسوة وتدمير مقومات الحوار كونهم يرون أنفسهم ملاك الحقائق غير القابلة للحجاج، والبعض يؤصل لمنهجه باستدلالات خاطئة ويحملها ما لا تحتمل من تبرير القتل وتسويغ ترويع الأمن وهز ثقة الناس فيما ارتضوه من دولة تكفل لهم الحياة الكريمة، ولم نتحرر من تاريخ حملت صفحات كتبه الكثير من المرويات الخوارجية المحطمة أدبيات السلم الاجتماعي، فأحداث السقيفة وما تبعها زمن الخلفاء الراشدين رضي الله عنهم وما أعقبها من خلافات سند بعضها ضعيف أو مؤول فتح لدعاة الفتن في كل زمن أن يحضروا تحت لواء دموي يعول على آيات وأحاديث ظنية الدلالة في التطاول على الرموز والسعي الحثيث لتنصيب الأفكار الذاتية قيادة لمجتمع متنوع وتعددي بطبعه وفطرته النقية، وهناك اليوم معطيات لم تنفصم عراها عن الماضوية المؤدلجة المفرطة في تزكية الذات والموغلة في أحلام لا أرضية واقعية لها سوى استنهاض مقولات الموتى الموتورين بحكم ظروف مكانية وزمانية، فالحديث عن الخلافة وإقامة شرع الله ما هي إلا مسوغات شرعية لتحقيق مآرب غير مشروعة، وتطويع نصوص الدين لنيل مآرب دنيوية مكشوفة للعقلاء والمنصفين وقراء التاريخ بوعي، ولست هنا بالمفكك لأزمة خانقة تولى الخطاب الإعلامي العربي إذكاءها كون التفكيك يحتاج إلى رؤية موضوعية وعادلة وقراءة اجتماعية واقتصادية وفكرية لأزمات صغيرة أنتجت أزمتنا الكبرى منذ حرب أفغانستان وظهور تيار الصحوة مرورا باحتلال الكويت وتبعاته وليس انتهاء بثورات ما يسمى الربيع العربي وتحولاته البائسة والخريفية كما يراها البعض من النقاد المحايدين ما أدخلنا في أزمة ذات تحبل وتلد ضيقا بالحياة ونفورا من الأحياء، ولا ريب أن التصدي لعبثية الأصولية وما تسعى إليه من جر الشعوب إلى تبديل نعمة الله كفرا يبدأ من التأصيل للإصلاح وتنمية المجتمعات والحد من الخطابات الاقصائية والمستفزة فهناك تيارات مضادة مؤدلجة تتجاوز الخطوط الحمراء في النيل من المقدس أو سوء الأدب مع الله ومع رسوله ضمن سياقات ماركسية أو ليبرالية أو علمانية كونها سياق من التطرف لا يقل خطورة ولا سوءا عن الغلو في الدين، ومن هنا يأتي دور المجتمع المدني المحترم لثوابتنا عقيدة وقيادة ووحدة وطنية مع التسليم أن أزمتنا من أنفسنا ومع واقعنا لا مع فاطر الأرض والسموات والمخلوقات في أحسن تقويم، وفي ظل ما نحن فيه لا مناص من استحداث مراكز فكر وبحث علمي ومعرفي تحدد الخلل وتسعى للإصلاح المشرعن بمباركة القيادة ولنجعل فاتحة منهجنا (ولا يجرمنكم شنئان قوم على ألا تعدلوا اعدلوا هو أقرب للتقوى).