أصبح من الواضح أن المجتمع - بمؤسساته الكبرى والصغرى، وفي تياره الشعبي العام - يقف في جهة، وفي الجهة الأخرى تقف تلك (القلة القليلة) من المتطرفين (مِن ذوي الصوت العالي بفعل صرامة تنظيمهم الحركي، وعمومية الشعارات والرموز التي يستخدمونها في الحشد)، أولئك الذين يُشكّلون تيار ممانعة لكل ما يطمح إليه المجتمع من تقدم بعد سبعة عقود من اكتشاف النفط، وهو الحدث الذي وضعنا في موقع التواصل الحتمي والحيوي مع العالم المتحضر من جهة، ومنحنا الوفرة المادية القادرة على النهوض بمشاريع التحديث من جهة أخرى؛ أصبحنا أكثر وعياً بمعوقات النهوض الحقيقية التي تشدنا خطوات إلى الوراء ؛ كلما تقدمنا خطوة واحدة إلى الأمام، وتجعل من مجرد التفكير بالنهضة وشروطها خطيئة تحتاج إلى مُبررات ومُفسرات، وربما إلى (توبة نصوح) في ساحة الاعتراف التي يقف فيها كهنة التطرف والتخلف متربصين بكل مشاريع التنمية والتحديث منذ سبعة عقود وإلى الآن . سبعة عقود من إرادة النهوض التي واجهت تحديات كبرى، تحديات تعددت وتنوعت، وتضافرت - أحيانا - في تفاعل جدلي ما بين عميق وظاهر، ولكن لم يكن أيٌّ منها يُضارِع التحدي الكبير الذي فرضه دهاقنة التطرف والتخلف علينا في صورة مستمرة، بحيث لا نتجاوز حلقة من حلقاتها الجهنمية إلا ونجد أنفسنا في حلقة أخرى، إلى درجة كادت فيها جهودنا أن تتحول من التمحور حول البناء الإيجابي إلى التمحور حول مكافحة السلبي، أي إلى الاكتفاء بمحاولة صد عدوان المتطرفين/المتخلفين . نحن لا نزعم أن التحدي الذي يُمثّله المتطرفون/المتخلفون هو التحدي الأوحد؛ حتى وإن كان هو الأخطر. هناك الجهل، وهناك التخلف، وهناك القبيلة، وهناك العصبيات بأنواعها، وهناك الفساد، وهناك التاريخ الضاغط ..إلخ معوقات التحديث، ولكن التحدي الذي جمع كل سلبيات هذه المعوقات، ودمغها بمشروع عقائدي متشرعن بروح التدين العام، التحدي الذي يكمن في مشروع المتطرفين من غلاة الخوارج، هو التحدي الأرفع صوتاً، والأقدر على مصادرة كل مشروع تقدمي؛ سواء بإلغائه أو بإرجائه، أو حتى بتفريغه من محتواه؛ ليكون مشروعا رجعيا يزيد من مساحات التخلف المتطرف، حتى في الوقت الذي يرفع فيه راية التحديث . كل هذه السنوات (= سبعة عقود) المليئة بالأحداث التي فرضت نوعا من الاصطفاف بين تقدميين ورجعيين، كانت كفيلة بوضع النقاط على الحروف في تحديد حقيقة الأزمة التي نعيشها. أصبح من الواضح أن المجتمع - بمؤسساته الكبرى والصغرى، وفي تياره الشعبي العام - يقف في جهة، وفي الجهة الأخرى تقف تلك (القلة القليلة) من المتطرفين (مِن ذوي الصوت العالي بفعل صرامة تنظيمهم الحركي، وعمومية الشعارات والرموز التي يستخدمونها في الحشد)، أولئك الذين يُشكّلون تيار ممانعة لكل ما يطمح إليه المجتمع من تقدم على مستوى التحولات العقلية/الفكرية، وعلى مستوى التحولات في الواقع العملي . ومع وضوح هذا الواقع (= تقابل الجبهتين ضدّيا) كحقيقة تكرر نفسها على وعينا باستمرار؛ إلا أن طريقة تعاطينا مع تيّار المتطرفين لا تزال عفوية في عمومها، يكتنفها كثيرٌ من الأخطاء التي فتحت الباب واسعا ليمارس المتطرفون وصاية أكبر على عقولنا وعلى سلوكياتنا، وليمتد طموحهم إلى المستقبل، بعد أن توهموا أنهم يهيمنون على الحاضر . وهو (وَهْم) لا ينبع من قوتهم بقدر ما ينبع من تخاذلنا، وعدم اكتراثنا بخطورتهم على حياتنا، إذ نتصورهم مجرد مشاغبين سيطويهم تيار الزمن الذي يسير لصالحنا، بينما الواقع يؤكد أن خطواتنا تتعثر - بسببهم - ما بين الإلغاء أو الإرجاء لكثير من خطوات التطوير والإصلاح . إنني، وبعد تأمل مني لتاريخ اشتباكنا الفكري والعملي مع تيار المتطرفين (وهو الاشتباك الذي لا يزال قائما إلى الآن)؛ تبين لي أننا نرتكب كثيرا من الأخطاء الفكرية والعملية في التعامل مع ممثلي هذا التيار، وأهمها - في نظري - ما يلي : 1 نحن نقلل من خطرهم ؛ لأننا نحس بأننا نتجاوزهم بفعل الدفع الذاتي لحركة التطور والتحديث. ويغيب عنا حجم التضحيات الكبرى التي اضطررنا لتقديمها بسبب وجودهم بيننا كعوائق عملية، وكإشكاليات معرفية. فمثلا، لولاهم لتقدم التعليم النسوي عشرين أو ثلثاين سنة، ولولاهم لتمت صياغة مناهج التعليم على نمط حداثي قادر على صناعة عقل رافض للخرافة وما يتبعها من جهة، ومنحاز إلى العقل الإنساني من جهة أخرى، ولولاهم لتم انتشال المرأة من قاع المهانة الاجتماعية التي يحاولون - بأقصى جهدهم - تثبيت المرأة فيها، ولنالت المرأة كثيرا من حقوقها التي لا تزال إلى اليوم تراها مستحيلة أو في قبضة الأحلام، ولولاهم لترسخت ثقافة العقل مقابل ثقافة النقل، ولقطعنا في ذلك خطوات واسعة ..إلخ عندما نريد تقييم علاقتنا بهم وبواقعنا، يجب علينا أن ننظر إلى ما كان يمكن تحقيقه ؛ لو لم يقف هؤلاء حجر عثرة في طريق تقدمنا، ولا نقف عند حدود ما حققناه ؛ وكأنه هو الممكن الوحيد في كل الظروف، فحجم الخسارة التي تسبب بها هؤلاء كان - ولا يزال - فادحاً، والنزيف الإنساني والتنموي لا يزال قائماً بسببهم، وسيبقى؛ ما لم يتم تقليم أظفار شغبهم الأعمى. وبدون رؤية الإشكالية من هذه الزاوية ؛ سنظن أنهم - بشغبهم الدائم - مجرد عوائق لا أثر لها في واقعنا، بينما هم في الواقع يجعلوننا - شعرنا بذلك أم لم نشعر - نتبنى كثيرا من الخيارات التي تعمد إلى نوع من التوافق معهم، والتي لم تكن من خياراتنا لولاهم. ما يعني أننا نتنازل عن كثير من خياراتنا المصيرية الإيجابية لصالح تلك الأبعاد السلبية المتضمنة في رؤية هؤلاء المتطرفين. 2 التيار المتطرف يتضمن في داخله أطيافاً متنوعة، وهم ليسوا سواء، لا في مستوى التطرف من جهة، ولا في عمق التعالق مع رؤى التخلف من جهة أخرى. هذه حقيقة لا ننكرها ولا نتنكر لها، ولكننا نعي أنها ليست كل الحقيقة، فالحقيقة الأعم والأشمل والأدق، هي أن كل التيارات التي تنتمي - بخلفياتها العقدية - إلى المنظومة التقليدية هي - بالضرورة التي يمليها المنطق العام للمنظومة التقليدية - تيارات تخلف وتطرف تقف موقف التضاد مع كل تيارات التسامح والانفتاح والتحديث. لهذا، يجب أن نكون حذرين في التعاطي مع الدعاوى التي تقسم التقليدية إلى (متطرفة) و(وسطية) و(معتدلة)..إلخ التقسيمات التي تحاول إنقاذ القسم الأكبر من التقليدية عن طريق التضحية ببعض الحمقى من أبنائها المخلصين! إن الأغلبية الساحقة ممن نراهم معتدلين ليسوا إلا فصيلا أصيلا من فصائل المنظومة التقليدية المتطرفة في عمقها، والتي لن تقدم خطوة واحدة (خطوة حقيقية)؛ ما لم نتجاوزها بالكامل ولعل من الواضح - بعد كل هذه التجارب الفكرية والعملية - أن من يدّعون الاعتدال أو الوسطية لا يضيقون بوجود المتطرفين، بل يسعدهم ذلك؛ لأن وجود التطرف المعلن عن نفسه يمنحهم صفة (الاعتدال) في الوعي الجماهيري العام . لهذا، يجب علينا إذا ما أردنا نقد التطرف والإرهاب حقيقة، أن نعمد إلى أصل المنظومة التي يمتاح منها الجميع، ولا نكتفي بالتقسيم الذي يضعونه لنا، زاعمين أنهم يحاربون التطرف والغلو، بينما هم والغلو أبناء عقيدة واحدة لا تختلف إلا على مراعاة ظروف التطبيق . 3 عدم تحرير المصطلحات عند التعاطي مع ظاهرة التطرف فكرياً، فلا زال وصفهم ب(الخوارج) بعيدا عن التداول الفكري والإعلامي، إذ يكتفي كثير من الكتاب والمفكرين بدمغهم بصفة (التطرف)، أو (الغلو)، أو (الفئة الضالة)، أو (أو المتشددين)، أو (المتزمتين)..إلخ الصفات الهينة اللينة !. والأقرب - توصيفا لهم - أنهم الخوارج الصرحاء، سواء أكانوا خوارجَ خارجين، أم من قعدة الخوارج الجبناء الذين يمارسون التقية في صورة نفاق صريح. إن إطلاق هذه الصفة (= خوارج)عليهم لا يعني أن الصفات الأخرى لا تنطبق عليهم، بل يعني أنها الأقرب إلى كشف حقيقتهم؛ لأن لها استحقاقات أخرى؛ بقدر ما لها من علائق تاريخية/فكرية، تبدو أكثر ما تبدو في ظاهرة (النصب)التي تتلبس المنتمين إلى هذا التيار، لا في الحاضر فحسب، وإنما في الخط العام لامتداد الوراثة الفكرية المتمثلة في تناسل الرموز الفكرية الاعتبارية منذ القرن الهجري الثاني وإلى اليوم. ولعل ما نراه من تسامح كثير من الكتاب في إطلاق صفة (الاحتساب) على كثير من غلاة الخوارج، ولو في سياق إدانة سلوكهم، يعكس نوعاً من التسامح في تحرير المصطلحات، ف(الاحتساب)فعل إيجابي في أصله الشرعي والمدني، وتوصيف غلاة الخوارج به في أصل سلوكهم (حتى مع إدانة الفرعي منه )، يمنحهم شرعية لا يحلمون بها، يمنحهم شرعية مطلقة، ليست شرعية وجود فحسب، وإنما شرعية هيمنة وتسلط واحتلال لمساحات القول والفعل أيضا، ومن وراء ذلك العقل بطبيعة الحال. 4 الصرامة والحسم. فعند التعامل مع هؤلاء لابد من أن نكون على درجة من الحسم، بحيث لا نجامل على حساب الحقيقة مع هؤلاء. ولعل الفقرة السابقة التي تحدثت فيها عن تحرير المصطلحات تعكس نوعا من عدم الحسم. فكثير من المثقفين والكتاب والإعلاميين يعرفون الصفة الأنسب التي يجب إطلاقها على هؤلاء الخوارج، ولكنهم يعمدون إلى الصفة الأبعد؛ لأنها أكثر مرونة وأقل تعنيفاً. إن الحلول الوسط ليست - دائما، وفي كل الظروف - أكثر نجاعة. فكثيرا ما تتسرب مكونات الحقيقة من ثقوب الحلول الوسط، وكثيرا ما كانت إرادة التوافق نافية للتوافق على المدى البعيد؛ لأن ظاهرة التطرف هي نوع من المرض العضال الذي لا دواء له إلا بالاستئصال؛ ولو على مراحل . فلا ضير في التمرحل هنا؛ شرط أن يكون الحسم حاضرا في الذهن، وواقعا في صلب شروط الفعل الواقعي . طبعا، أدرك أن الصرامة والحسم والوضوح في التعامل مع ظاهرة تتلبس بالمقدس لها ثمنها الباهظ على أكثر من صعيد . لكن، لابد من التضحية، ل بد أن نخسر أشياء وأشياء في سبيل كشف حقيقة هؤلاء الذين هم أصل البلاء، والمصدر الأصيل والعميق واللامباشر لمعظم الأزمات والإشكاليات التي تحاصرنا، وتحاول أن تخنق ما بقي فينا من رمق الحياة. إن الدبلوماسية في السياق الفكري كارثة إلى أبعد الحدود. الفكر - في أصله الوظيفي - لا يبحث إلا عن الحقيقة، فهو منها وإليها، ويجب أن يكون كذلك على الدوام . صحيح أنه ليس كذلك دائما، أي في الواقع، لكن، عندما لا يكون الفكر باحثاً عن الحقيقة فهو ليس فكرا، وإنما مُنظّم علاقات عامة، أو ممتهن صناعة خطط للاحتيال. وحينما يكون الفكر كذلك، يتحول المشتغلون به من طبقة المفكرين إلى طبقة زعماء العصابات الإجرامية. فمن يسرق الحقيقة من العقول أو يتلفها أو يساهم في ذلك، لا يختلف كثيرا عمن يقتل، أو يُهرّب المخدرات، أو يرعى شبكات الدعارة، أو يسرق الأموال، أو يمارس التخريب والتدمير، بل هو أشد جرماً من كل هؤلاء؛ لأنه المؤدي - بسلوكه المدمر للوعي - إلى تفشي كل هذه الجرائم في واقع الناس.. (يتبع)