لم يعد مفهوم «الجار قبل الدار» الذي توارثناه على مر السنين، صالحا للوقت الحالي، بعد أن أصبح الواقع يؤكد أن «الدار قبل الجار»، إذ انشغل غالبية أفراد المجتمع بالبحث عن الماديات وتحسين أوضاعهم المعيشية، وتناسوا توطيد العلاقات مع الجيران، فضلا عن انتشار وسائل التواصل الاجتماعي الحديثة، بين الأهالي فأهملت حقوق الجيران، ولم يعد المرء يرى جاره إلا بالمصادفة، في لقاءات تتسم بالرسمية وتفتقد للحميمية التي كانت في السابق. وأسف المخرج التلفزيوني بشار خالد حابس على الوضع الذي آلت إليه علاقة الجيران في المجتمع، إذ أصبح كل فرد مشغولا بنفسه، ولا يعلم أحوال جاره، مشيرا إلى أنهم يحاولون في حي المحمدية في جدة، توطيد العلاقات فيما بينهم من خلال تنظيم لقاء لأبناء الحي كل يوم ثلاثاء في منزل أحدهم، من بعد صلاة المغرب إلى العشاء. وذكر أنه يتلمسون حاجات بعضهم ويطمئنون على بعضهم، في ذلك اللقاء المستمر منذ 18 عاما، إضافة إلى أنهم يجتمعون نهاية كل شهر على مائدة العشاء، مشددا على أهمية أن تنتشر هذه العادات الجميلة في جميع الأحياء. واستغرب من بعض الذين يجعلون بينهم وبين الآخرين حساسية، وقد يحرج من الذهاب إلى بيت جاره ويتعذر بأعذار واهية، منتقدا طريقة استخدام وسائل التواصل الاجتماعي خصوصا أنهم حصروها في تبادل النكت ونقل الإشاعات والأخبار غير الصحيحة. وذكر أنه يبادر لزيارة أي جار جديد في الحي ويتعرف عليه ويبارك له في منزله، ويعرض عليه خدماته، لافتا إلى أنه لا يريد من ذلك إلا الأجر من الله. إلى ذلك، انتقد المهندس محمد أحمد يماني من منسوبي الخطوط السعودية تجاهل كثير من أفراد المجتمع حقوق الجيران، وانشغالهم بالعمل، موضحا أن سكان حيه القديم كانوا في السابق يعرفون بعضهم البعض، وكان الجار يهتم ببيت جاره في غيابه، إلا أن الوضع اختلف حاليا وأصبح الجار لا يرى جاره إلا في مناسبات العزاء أو الزواج فقط. وشدد على أهمية دور أئمة المساجد في التذكير بحقوق الجار، منوها بدور مراكز الأحياء والمدارس ووسائل الإعلام المختلفة في هذا الجانب، وأن يدرس موضوع حق الجار اجتماعيا وأكاديميا. كما أكدت هبة زاهد مسؤولة علاقات عامة أن المجتمع حاليا لم يعد كما كان في السابق، إذ لا يهتم الكثيرون بحقوق الجيران، مطالبة بحملة توعوية تهدف لبيان حق الجار، وتعزيز الألفة والود في المجتمع. لكن غادة أبو طالب مسؤولة خدمة عملاء علاقات إعلامية ترى أن مجتمع النساء أفضل بكثير من الرجال في الالتزام بحقوق الجار، لأنهن يتزاورن أو يتواصلن بالهاتف على أقل تقدير، فضلا عن أن الرجال مشغولون بأعمالهم. ورأت أن أسبابا مادية ومعنوية وراء ابتعاد الجار عن جاره، ملمحة إلى أنهم في السابق كانوا يسكنون في بيوت متلاصقة، في حين أصبحوا حاليا يقطنون في مساكن مستقلة منفصلة عن الجيران، فضلا عن أن الجيران والأقارب باتوا لا يتواصلون إلا في وسائل التواصل الاجتماعي. من جهته، شكا محمد العبدالله من إزعاج جاره له، وشكل له مصدر قلق، ووقعت كثير من الإشكاليات بينهم، منذ أن سكن منزله الحالي، مبينا أنه حاول التفاهم معه إلا أنه فشل، بعد أن تبين أن الإزعاج عادة متأصله فيه وفي أبنائه. في حين فضل صالح السعيد الانتقال من مسكنه بعد أن يئس من إصلاح حال جاره المزعج، لافتا إلى أنه دأب منذ اليوم الأول لسكنه في رمي النفايات أمام باب منزله، على الرغم من وجود حاوية للمخلفات بالقرب منهم، فضلا عن أن أبناءه يوقفون سياراتهم أمام باب منزله. وأوضح مفرح بن عطية الزهراني أن الجار في الوقت الحالي بات لا يهتم بجاره، إلا من رحم ربي، ملمحا إلى أن الشحناء حلت محل المودة في علاقات الجيران، في زمن البحث عن الماديات والمدنية الزائفة. وبين أن الجار يسكن بجانب الآخر لسنوات عدة وثم يرحل وهو لا يعرف جيرانه ولم يعرفوه، ملمحا إلى أن هذه المشكلة لم تكن موجودة في السابق. وذكر أن الأهالي في القرى والهجر والأرياف يتواصلون فيما بينهم أفضل من سكان المدن، مطالبا بتكثيف التوعية في المجتمع حول أهمية حقوق الجار. وانتقد مبارك فيحان الدوسري إزعاج بعض الأشخاص لجيرانهم، ملمحا إلى أن الأهالي في المناطق النائية والقرى يراعون حق الجار أفضل ممن يقطنون في المدن الكبرى في ظل تباعد مساكنهم. بدوره، أفاد الشيخ فهد بن سعد العبلان خطيب الجامع الكبير بمليجة أن كثيرا من الناس أصبحوا لا يراعون حقوق الجيران في الوقت الحاضر، وانعدم التواصل بينهم، في حين قال الرسول صلى الله عليه وسلم: (أوصاني جبريل عليه السلام بالجار حتى ظننت أنه سيورثه). وأضاف عن أبي هريرة قال، قال صلى الله عليه وآله وسلم: (من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يؤذي جاره ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفه ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيرا أو ليصمت وفي رواية أخرى فليكرم جاره). وقالوا: يا رسول الله ما حق الجار على الجار؟ قال: إن استقرضك أقرضته، وإن استعانك أعنته، وإن مرض عدته، وإن احتاج أعطيته، وإن افتقر عدت عليه، وإن أصابه خير هنأته، وإن أصابته مصيبة عزيته، وإذا مات اتبعت جنازته، ولا تستطيل عليه بالبناء فتحجب عنه الريح إلا بإذنه، ولا تؤذيه بريح قدرك إلا أن تغرف له، وإن اشتريت فاكهة فاهد له، وإن لم تفعل فأدخلها سرا ولا تخرج بها ولدك ليغيظ بها ولده. لذلك فليحذر من يؤذي جاره من عاقبة ذلك في الدنيا والآخرة. بينما رأى محمد حكمي أن مجالس الرجال أصبحت تبنى في كثير من المنازل للديكور فقط، والكثير من الجيران لا يعرفون بعضهم البعض، وتتفاوت هذه الظاهرة باختلاف البيئة من المدينة إلى المحافظة إلى الهجر والقرى. واستدرك بالقول «لكن مما لا بد من ذكره أن النساء مازلن متمسكات بالتواصل وزيارة الجارات، على عكس الرجل الذي انشغل بالعالم وتوفير لقمة العيش واكتفى بالتواصل الإلكتروني»، مشيرا إلى أن تخصيص وقت بسيط لزيارة الجيران كفيلة بتوطيد العلاقة في المجتمع. وبرر بكري البيشي قلة التواصل الاجتماعي بين أبناء الحي الواحد بقسوة الحياة وازدياد متطلباتها، فتجبر المرء على اللهث وراء تحسين وضعه المعيشي، لذلك لا يجد الوقت الذي سيقضي فيه لحظات ممتعة مع جيرانه أو حتى يتعرف على آخر مستجداتهم. وقال «البعض قد لا يجد الوقت الذي يناقش فيه أمور بيته أو حتى يجلس إلى أفراد أسرته وينظر في أحوالهم وكيف يقضون أوقاتهم وذلك خطر كبير أصبح يحيط بنا دون أن نشعر به». وأوضحت فاطمة عداوي أن الحال تغير ولم يعد مثل السابق، وأصبح كل فرد مشغول بعمله ولا يجد الوقت الكافي لزيارة الآخرين، ملمحة إلى أن بعض الجيران قد يلتقون مصادفة عند أبواب المنازل أو في إحدى المناسبات أو للأسباب الطارئة كالأفراح والوفاة وتكون زيارات رسمية كأنهم لا يعرفون بعضا ويتعاملون بطريقة رسمية. من ناحيته، بين محمد مفرح من سكان جبال بني مالك أن الحياة الجبلية مازالت متمسكة بالعادات والتقاليد ومنها حب الجار وزياراته، خصوصا أن المنازل المشيدة في الجبال متلاصقة، ما يعزز التواصل بين سكانها. واستهل هادي حكمي حديثه بالقول «في السابق كان الجار يعرف جاره ويتلمس حاجات أسرته في غيابه، أما الآن فأصبح كل فرد مشغول بنفسه، في السابق كنا نرى المرء لجيرانه مزاورا مطمئنا، ومواسيا وفرحا، أما الآن فقد بات الجار يعاني قسوة الحزن وحده، ويعيش الفرحة وحده، أنستنا المادة وملذات الحياة وحبها وصية خير البشرية محمد صلى الله عليه وسلم، حيث أوصانا بسابع جار والآن نعيش بجانب جار نجهله ولا نعرف عنه شيئا، بل وصل الحال بنا أننا نشتكي من هجر القريب لا الغريب وحسب، فلا يكاد يرى القريب قريبه إلا في العام مرة، وقد يطول الهجر لأعوام عدة.. أي حياة نعيشها!!». واعترف بأنه لا يعرف أحوال جاره الذي يقطن معه في البناية ذاتها منذ أسبوعين، مضيفا «في مسكني الجديد ومدينتي الجديدة، أراهم يغادرون منازلهم بوجه عابس ويعودون بوجه عابس أيضا، إذا تكرموا للجيرة فبالسلام الجاف لا أكثر»، متسائلا بالقول «هل سيتعدل الحال أم سيزداد الأمر سوءا ليهجر الابن أباه والأخ أخاه؟ ليتنا نعود إلى زمن الأجداد والآباء، إلى زمن المحبة والإخاء الحقيقيين».