الأفكار هي أرخص الأشياء عند العرب، وهم أزهد الخلق بها.. هذا ما يقوله الكاتب المثقل بالفلسفة إبراهيم البليهي في حوار من حواراته الملتهبة، والتي تحفل بالاحتجاج والصراخ العالي ضد الجوامد وضد السائد، والذي يقرأ البليهي يعثر على فكر فلسفي وقراءة عميقة للواقع من خلال نظريات الأنثروبولوجيا وفلسفة الحضارة وطرح حاد في وجه التخلف والجهل.. قال عنه الدكتور شاكر النابلسي «إنه ظاهرة تنويرية شديدة الأهمية، بل هو يظهر بيننا في هذا الزمان وكأنه بأفكاره سابق لعصره، ونحن إذ نقرأه الآن ننسى أننا نقرأ مفكرا يعيش بيننا في هذا العصر، الذي اشتد فيه الظلام، وارتفعت فيه أصوات الصدى، وضاقت الصدور بالرأي الآخر، وتاه العقل في متاهات التكفير والنفير». ويضيف النابلسي: «ونحن نقرأ البليهي الآن نحسب أننا نقرأ مفكرا عاش بعد مائة سنة، أو أكثر من الآن، وأنه رأى ما لم نر، وسمع ما لم نسمع، وقرأ ما لم نقرأ». انتهى كلام النابلسي، ولعل الجميل في تأملات وحوارات البليهي أنه لا يلتزم بمنهج واحد ولا يتقيد باتجاه معين، بل يستعين بكل ما يتوفر من المناهج والرؤى، وثمة من يرى أنه ما زال منبهرا بالمنجز الغربي وليس أكثر، غير أن قراءته للمشروع الغربي تجعل انبهاره له ما يسوغه، لكن الهم الذي يحمله البليهي، والذي يوصف بأنه مشروع يعمل على إنجازه هو هم مشترك لكل من يقرأ الواقع العربي بكل مكوناته وهزائمه.. فالتخلف والبحث عن أسبابه يجعلنا نعيد طرح الأسئلة معه بحثا عن مخرج لقضايانا المأزومة. ويرى أن الليبرالية هي المناخ الأنسب الذي يتيح للإسلام أن يجسد مبادئه العظيمة في العدل والمساواة وحفظ الكرامة الإنسانية وإسعاد البشر، فمن حقائق الواقع الإسلامي أن للمسلمين نحو ستين دولة، وأن أكثر هذه الدول ما زالت شديدة التخلف، ولا يمكن أن يكون الإسلام ذاته هو المسؤول عن هذه الأوضاع البائسة المزرية، إنما الوصاية عليه هي التي انكمشت بتعاليمه وحجبت أضواءه، وهذه حقيقة نتفق مع البليهي في رؤيته تجاهها، ويقول في رأي «إننا ما زلنا مأخوذين بثقافة المشافهة، فلسنا مجتمعات قارئة، والدراسات والتقارير الدولية تؤكد أننا نعيش حالة مخزية وفضائحية ومأساوية بالنسبة للقراءة وإنتاج المعرفة والبحث عنها». ولعله يواصل مشروعه الفكري الذي يتصدى بعزم كبير، بدءا من بنية التخلف، إلى تأسيس علم الجهل وعبقرية الاهتمام وغيرها من الآراء التي تقرأ الواقع العربي قراءة عميقة بالرغم من أنها تحفل بلغة احتجاج كبيرة، لكن واقع الحال يدعو إلى مثل هذه الحالة التي تسيطر على آراء وحوارات إبراهيم البليهي.. إن الكثير من القضايا في مجتمعنا اليوم تحتاج للكثير من المراجعات، وتحتاج أيضا للنقد والتحليل والاختلاف من جديد.. وبحاجة لإعادة قراءة تراثنا الثقافي الغزير قراءة حضارية برؤية تعيد إنتاجه من جديد. ورقة أخيرة: في المساء ينبت الزهر في فمها وتغفو بين أصابعها نوارس الوسم [email protected]