كثيرا ما تستوقفني تعبيرات غادة السمان، فهي حين تتحدث عن بعض الأمور في هذه الحياة، سواء كانت تمس حياتها الخاصة أو حياة الناس عامة، تتحدث عنها بأسلوب مؤثر جذاب يجمع بين العمق والتهكم، والواقع والخيال، وقدر كبير من الصدق والصراحة والجرأة. أكثر ما يسترعي انتباهي ويثير إعجابي بأسلوب غادة، قدرتها البالغة على وصف مشاعرها بدقة عجيبة، حيث تتغلغل إلى أعماق النفس الإنسانية، فتصور أدق ما فيها من تفاصيل الانفعالات التي تزداد تعقيدا كلما تضاربت وتنازعت متضادة فيما بينها، ويظهر ذلك أكثر ما يظهر في كتاباتها التي أصدرتها إثر انتهاء العلاقة العاطفية التي كانت تربط بينها وبين غسان كنفاني في أواخر الستينات من القرن الماضي، فرغم أن العلاقة بينهما كانت في جذوتها، إلا أن غادة حسب ما تقول قررت أن تبتعد عنه بعد أن تبين لها أنه غير راغب في الانفصال عن زوجته وابنتيه منها، كما أنها هي نفسها لم تكن ترغب أن يظلم زوجته بسببها، فهجرته وارتحلت إلى فرنسا بعيدا عنه، ورغم أن غسان ظل زمنا يكتب إليها يبثها حبه وفقده لها في رسائل أدبية نشرتها غادة بعد مقتله في حادث الاغتيال المشهور، إلا أن العلاقة بينهما كان لا بد لها أن تنتهي. في كتابها (أعلنت عليك الحب)، تتحدث غادة السمان في رسائلها الموجهة إلى مجهول، عن مشاعر الفراق وألم الفقد الذي تحسه ينهش بجنون خلايا قلبها كذئب مسعور: «عذاب أن أحيا من دونك، وسيكون عذابا أن أحيا معك، يبقى أملي الوحيد معلقا بتلك الممحاة السحرية التي اسمها الزمن، والتي تمحو عن القلب كل البصمات والطعنات، كلها». ولم يخيب الزمن ظن غادة، فبعد سنوات من الألم والعذاب أهداها ممحاته السحرية لتحل عليها سكينة النسيان: «طويلا تمددت على الشفرة، بين قارة الحب وقارة الوداع، وتعذبت بصمت، وها قد هبط طائر النسيان أخيرا، واستقر فوقي كرخٍ أسطوري، وهيمن على جسدي وروحي، وها هو يلفني بجناحيه: جناح النوم وجناح السكينة». لكن النسيان الذي جاء أخيرا، هو وإن حمل إليها السكينة، إلا أنها كانت تراها سكينة الأموات، فعندما تتبلد المشاعر وتخمد الانفعالات ويصمت نبض القلب، فإنما ذاك وجه من وجوه غياب الحياة: «كأني مت، فقد سكن الوجع، وتعانق الشقاء والفرح متواطئين وخرجا من مسرحي، ولفظ الحب أنفاسه بعد ليل احتضار طويل، (...) كأني مت، لا أترقب لقاءك، لا أترقب فراقك، لا أشتهي عناقك، لا أشتهي خصامك، لا تفسير لدي، لا تفسير لديك أشتهي سماعه، (...) كأني مت، كأنك كنت حقا من بعضي، وحين قتلتك في نفسي، لم أكن أدري أنني انتحرت». استطاعت غادة أن تعيش عنفوان الحب دفئا ونعيما وهناء، لكنها لم تستطع أن تحميه من اللكمة التي أسقطته بالضربة القاضية، فانهار بين يديها متشظيا يتلوى من الألم، يغص بالسكرات ويغالب الموت حتى غلبه، فماتا معا.