لم تكن القلمون تحظى بذلك الاهتمام في الإعلام الدولي قبل الثورة السورية وتحديدا قبل أشهر فقط، فأكثرية الناس عربا وعجما لا يعلمون «بالقلمون» في سورية، ولا يعرفون الطريق إليها، إلا أنها وبين ليلة وضحاها باتت تجتذب الأضواء الإعلامية، وتلفت الأنظار من كل حدب وصوب وباتت قراها على كل شفة ولسان، هنا معارك طاحنة، وهناك غارات جوية مركزة، وهنالك حركة نزوح لا يمكن وصفها. «القلمون» هي تلك المنطقة الممتدة من جبال لبنانالشرقية وسلسلة الجبال الغربية السورية غرباً إلى بادية الشام شرقاً، ومن سهول حمص شمالا إلى دمشقجنوبا، إنها منطقة شاسعة استراتيجيا وسياسيا واقتصاديا وعسكريا، ولعل في ذلك يكمن سر المعركة الضخمة التي يخوضها الجيش الحر والثوار ضد جيش النظام السوري وحلفائه وعلى رأسهم حزب الله. «عكاظ» قصدت القلمون بقراه ومدنه، وجالت على خطوط التماس وعاينت الأضرار والتقت الشهود المغيبين عن معارك القلمون وقصصها، من قارة إلى يبرود مرورا بالنبك فكانت تلك الحكايات. البداية، كانت في «قارة وان» وليس في الأمر صدفة، فمعركة القلمون كما يقول حلفاء النظام السوري بدأت في «قارة» وكذبة النظام الكبرى كما يقول أهل المدينة والثوار المقاتلون بدأت أيضاً في «قارة».. تلك المدينة التي تقع على الطريق الرئيس الذي يصل بين مدينتي دمشق وحمص، وهي تبعد حوالى مائة كيلومتر شمال دمشق، وحوالى سبعين كيلومترا جنوب حمص، ترتفع «قارة» عن سطح البحر بحوالى 2200 متر، كتب الجغرافيا تكتبها «قارة» فيما أهلها يقولون «قارا».. وفي اللغة العربية «قارة» هي التل الصغير وفي اليونانية تعني الاستشفاء بسبب البيئة والهواء النقي فيها. أما في السيريانية فهي تعني البرد الشديد في فصل الشتاء. وإن كانت المدينة معروفة بقصصها وأخبارها فإن لجبل قارة قصة لا بل قصص نظراً لارتفاعه وإشرافه على كل قرى القلمون. في الطريق إلى القلمون كان المرور بمدينة عرسال اللبنانية، البالغ عدد سكانها خمسين ألف نسمة، وهي الآن تستقبل ما يقارب ستين ألفاً من النازحين السوريين وأكثريتهم الساحقة من القلمون، وثلاثون ألفا منهم تحديداً من قارة التي نزحوا منها بعد دخول جيش النظام ومليشيا حزب الله إلى أحيائها. دخول تحدث عنه النظام أنه انتصار فيما حزب الله هلل له في بيروت على أنه فتح جديد من سلسلة فتوحاته، إلا أن القصة التي حصلت عليها «عكاظ» تخالف كل ذلك، قصة تسقط لغة الانتصارات والبطولات الوهمية لتضع النقاط على الحروف. غدر نظام الأسد «ياسر كحيل» (35 سنة) من أبناء قارة روى ل «عكاظ» الحكاية فقال: قبل ثلاثة أيام من دخول جيش النظام كانت الاتصالات تدور مع كل فعاليات المدينة عبر ضباط في جيش النظام لديهم بعض العلاقات الشخصية مع بعض أهل المدينة حول تجنيب قارة الدماء، والعمل على عدم حصول معارك يسقط فيها أبناء المدينة، وكان الطرفان يبديان حرصهما على الوصول إلى اتفاق، وخلاصة المباحثات التي تواصلت لأكثر من يوم تمحورت حول عرض قدمه النظام لأهل المدينة ويقضي بتسليم عدة أشخاص مطلوبين وتسليم عدد من البنادق المعطوبة ودخول دبابتين فقط لا غير إلى ساحة المدينة، ويتم رفع علم النظام في الساحة وتلتقط الصور ويعلن أن الجيش قد بسط نفوذه على المدينة ليخرج بعد ذلك من دون إهراق نقطة دماء وعدم توقيف أبناء المدينة. وأضاف أن هناك بعض الفعاليات لم تثق بالنظام وبوعوده فحصلت عملية نزوح كبيرة لعائلات كثيرة باتجاه قرى الجراجير والفليطة والنبك، وقسم كبير منهم توجه إلى عرسال اللبنانية خوفاً من أن يبطش بهم النظام كما حصل في مدن أخرى، لعدم حصول أي خلاف في المدينة انسحب عناصر الجيش الحر والثوار إلى الجبال المحيطة بالمدينة لنفاجأ في ليلة الأحد بحصول عملية التفاف من قبل الجيش النظامي تؤازره مجموعات من حزب الله على المدينة تحت غطاء ناري غير مبرر ليدخلوا وسط المدينة ما أدى إلى سقوط بعض الشهداء غدراً وظلماً. خديعة كبرى ولم تختلف رواية يوسف غاوي (25 سنة)، عن رواية ياسر، إذ قال إن فصيلا تابعا لجيش الإسلام الذي يقوده زهران علوش هو من أشرف على هذا التواصل مع بعض الضباط، وعندما حصل الاتفاق انسحبت كتائب جيش الإسلام من قارة بعدما قدمت إليها للمشاركة في الدفاع عنها، وقد حصلت هذه الفصائل على تطمينات ووعود بعدم التعرض للمدينة أو دخول حزب الله إليها، إلا أنه بعد انسحاب الفصائل الثورية من المدينة فوجئنا بقصف عنيف بري وجوي دون سابق إنذار ودون أن يكون في سياق معركة يخوضها الثوار. قصف كان مرعبا ومدمرا لأحياء كاملة في المدينة إلا أن الكتائب المقاتلة من أبناء المدينة كانت قد انسحبت إلى الجبال المحيطة متحصنة فيها. وأضاف «لقد شاهدت بأم العين عناصر تابعة لحزب الله وهي تدخل خلف دبابات النظام إلى المدينة، وكنا نسمع الشعارات الطائفية بكل وضوح هم يتحدثون عن انتصار قد حققوه ونحن نؤكد أن ما حصل هو خديعة كبرى». اعتقالات وتعذيب وروى زاهر الحجي (طالب جامعي) ل «عكاظ» قصة المدينة مع النظام فقال: عند انطلاق الثورة وقبل تسلح الثوار عانينا الأمرين من عناصر المخابرات السورية، لأنهم يدركون موقف أهل قارة وقرى القلمون، وقد حدث خلال عودتي من الجامعة إلى منزل العائلة في قارة، منذ أكثر من عام أن أوقفني حاجز المخابرات الجوية عند النبك وطلبوا هويتي، وهو أمر يحدث يوميا، بيد أنني فوجئت هذه المرة بأحد الضباط يصرخ ويسبني، حينها أدركت أنني في ورطة فتقدمت منه فإذا به ينظر إلي بشدة ويقول: «أنت من تحضر العبوات الناسفة يا خائن»، ثم انهال عليّ بالضرب هو ومعاونوه، وتم نقلي إلى مقر الاستخبارات في «النبك» ووضعت في غرفة تحت الأرض لا تزيد عن ستة أمتار وبها نحو خمسين شخصا، حتى الذهاب إلى الحمام كان ممنوعا، وفي النهار كنا نتناول وجبة واحدة عبارة عن ربع رغيف ونصف خيارة، ولا خروج من الغرفة إلا للتحقيق أو التعذيب، أو الموت. وأضاف زاهر أن أحد المعتقلين توفي فتركوا جثته داخل الغرفة مدة يومين، وبعد ثلاثة أشهر من الاعتقال خرجت ليس لأنني بريء، لكن لأن أهلي دفعوا مبلغاً كبيراً ثلاثة ملايين ليرة سورية لرئيس الفرع فأطلق سراحي. وأكد زاهر أنه لا تراجع عن الثورة، لأنه لا يمكن العيش أو التعايش مع هذا النظام المجرم، وسنعود إلى قارة عاجلا أو آجلا، مفيدا أن أبناء المدينة من المقاتلين مازلوا في جبالها ومستعدون في اللحظة المناسبة للعودة إليها. لن ننسى قارة ونحن في طريقنا، كانت إحدى العائلات تنقل أثاثها نازحة باتجاه لبنان، وقد بادرتنا فاطمة القليح وهي شابة من قارة متسائلة: ماذا يريد حزب الله منا؟ هل نحن ذهبنا إلى لبنان لنقاتله؟ هل نحن أسأنا إليه؟ عندما هاجمت إسرائيل لبنان قبل سنوات استقبلنا عائلات حزب الله في منازلنا وتقاسمنا معهم اللقمة والرغيف، لماذا جاءوا إلى قرانا؟ ولماذا يعاملوننا كالكفار؟. وقالت إن ما حصل لن ننساه أبداً، غادرنا منازلنا قسراً لكننا سنعود إليها لأن من يخدعك مرة لن يستطيع خداعك طول العمر. وأضافت منذ يومين نسير حاملين أمتعتنا من قرية إلى قرية ونهرب من طائرات النظام وصواريخه، سنقصد عرسال في لبنان لعل الأمان هناك أكثر، لكن كل المدن الآمنة لن تنسينا قارة، هي مسقط رأسنا ولن نتنازل عنها. كذبة كبرى وأكد مازن قدور ل «عكاظ»: أن ما حصل في قارة كذبة كبرى، مؤكدا أنهم كذبوا عندما قالوا إنهم احتلوا قارة والصحيح أن أهل المدينة انسحبوا منها، وكذبوا عندما قالوا إن قارة فيها داعش والنصرة فيما المقاتلون فيها أهم أبناؤها، وكذبوا عندما قالوا إنهم لن يخرجوا من قارة فنحن نعلم بمدينتنا وبرجالها، وسنعود إليها. قارة مرتع للتاريخ تتميز قارة بعدد من الأماكن الأثرية والتاريخية فيها، التي تدل على عمقها التاريخي وعلى روح التعايش الديني فيها ولعل أبرز تلك المعالم: الجامع الكبير: يعتقد أن بناءه الأصلي كان معبداً في العصر الروماني قبل الميلاد، ثم حُوِّل إلى كنيسة في العصر البيزنطي عام 325 ميلادي سميت بكنيسة القديس نيقولاوس، وفى العصر المملوكي حول إلى جامع بأمر من السلطان الملك الظاهر بيبرس عام 664 ه الموافق لعام 1266 ميلادي. كنيسة مارسركيس: تعرف أيضاً باسم كنيسة «سرجيوس وباخوس»، بنيت في نهاية القرن الرابع الميلادي، ثم أهملت وتهدمت، ثم أعيد بناؤها عام 1869 ميلادي. دير مار يعقوب: بني في القرن السادس الميلادي، وهو أقدم أديرة منطقة القلمون. يحتوي على كنيسة وطاحونة ومجموعة من الغرف، بالإضافة إلى الحظائر والمستودعات. الخانات القديمة: خان نور الدين، بني في عهد الملك نور الدين محمود الزنكي (511 569 ه) القرن الثاني عشر الميلادي، ويتألف من باحة تحيط بها خمسة أجنحة، وقد كان يستخدم محطة للحجاج والتجار. الأقنية الرومانية: أقنية مائية قديمة، تعود إلى العصرين الروماني والبيزنطي. النصب التذكاري لمعركة عيون العلق: يخلد هذا النصب ذكرى شهداء معركة عيون العلق، التي وقعت في 13 آذار عام 1926م، حيث احتشد في قارة بعض الوطنين من مختلف مناطق سورية بدعم ومؤازرة أهالي قارة، لمواجهة القوات الفرنسية الزاحفة لاحتلال النبك.