لقد عرفت الأمم الكبيرة أهمية الترجمة منذ العصور الموغلة في القدم، فهي إذن ليست وليدة هذا اليوم، بله هذا العصر، بل تعود إلى أبعد القرون قدما؛ فقد مارس أوائل المصريين، وعلى عهد الفراعنة بالذات، الترجمة ممارسة احترافية؛ إذ كتب نص اتفاق سياسي وقع بين الفراعنة والهيتيين (وهم قبيلة عظيمة قديمة كانت تتخذ لها بلاد تركيا، راهنا، مثوى لها) بلغتين اثنتين: الهيروغليفية، والهيتية، وذلك منذ أكثر من ثلاثة آلاف عام. كما كان يوجد بالديوان الفرعوني بمصر القديمة مترجمون محترفون، يرث أبناؤهم آباءهم. وكان الفراعنة، لشرف مهنة الترجمة ونبلها، يصنفونهم في مراتب الأمراء. كما أن الرسائل التي كان يبعث بها النبي صلى الله عليه وسلم إلى ملوك عصره كانت تترجم إلى لغات أولئك الملوك مجرد وصولها إلى دواوينهم، على الرغم من صمت المؤرخين ورجال السير عن ذلك، صمتا مذهلا! ولم يكد يومئ إلى بعض ذلك إلا ابن خلدون في تاريخه. وواضح أن العرب لم يكونوا على جهل مطلق بلغات الأمم المجاورة لهم قبل ظهور الإسلام، فقد كان ورقة بن نوفل، مثلا، متنصرا؛ فكان «يكتب الكتاب العبراني فيكتب من الإنجيل بالعبرانية ما شاء الله أن يكتب». كما كانت الترجمة مستعملة في مجتمع المدينةالمنورة، بعد الهجرة، وخصوصا بين العربية والعبرية، حيث كان أهل الكتاب يقرأون التوراة بالعبرانية، ويفسرونها بالعربية لأهل الإسلام، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأصحابه: «لا تصدقوا أهل الكتاب، ولا تكذبوهم». وكانت سجلات الجند، والمحاسبة، تتم باللغة الفارسية منذ البدء في تنظيم الجيش الإسلامي، وظل الأمر على ذلك إلى عهد عبدالملك بن مروان الذي أمر بتعريب الدواوين بسعي من الحجاج بن يوسف. ثم ازدهرت الترجمة على عهد المأمون، كما هو معروف، كما لم تزدهر من قبل ولا من بعد قط، بفضل تشجيعه العلم والعلماء، والمترجمين والحكماء؛ حتى إنه كان يكافئ المترجم حنين ابن إسحاق، وهو أحد أكبر المترجمين في التاريخ على الإطلاق، بأن يمنح وزن الكتاب الذي يترجمه ذهبا. وهي طريقة في التشجيع لم يعرف لها مثيل في التاريخ. وكان بيت الحكمة ببغداد يجمع فريقا ضخما من كبار المترجمين من مسلمين ونصارى ونسطوريين ويعقوبيين ويهود. فأمست بغداد، بفضل ذلك، أعظم مركز للإشعاع العلمي في العالم. ولولا الترجمة التي بفضلها تفتحت عيون العلماء المسلمين على علوم الإغريق، لما كانت تلك النهضة العلمية العظيمة في مجالات العلوم والرياضيات والبصريات والطب والفلسفة وغيرها.