قبل الحديث عن أهمية كتابة السير عند العرب، لا بدّ من القول إنّ معرفتنا بالتاريخ لا تتعدى معرفة ما اهتدينا إليه من مدوّنات العصور الوسطى، ولكنّ هذه المدوّنات بدورها وإن عُدَّت بدايةَ المعرفة التاريخية، إلا أنّها تُعَدّ بداية التاريخ، بل هي إحدى مصادره القليلة. أمّا التاريخ -أو التأريخ-، فقد بدأ في مرحلة متأخرة نسبياً، إذ ترجع المدوّنات، سواء على جدران المعابد أو قبور قدماء المصريين أو أوراق البردي أو ألواح سومر وبابل المسمارية... إلى بضعة آلاف من السنين قبل الميلاد، إلى حين قيام هيكتاتيوس الملطي في منتصف القرن السادس قبل الميلاد بتأريخ نشأة الإغريق وتجولاتهم الأولى. فهو القائل: «لا أقصّ خبراً ما لم أعتقد بصحته، فأساطير الإغريق عديدة، وما هي إلا خرافة»، فالسير أخذت حيزاً مهماً عند الشعوب التي سبقت العرب، فعند اليونان ظهر هيرودوت وتيوسيديو، وفي المشرق ظهرت حوليات «ماتينوت المصري» وتاريخ بابل «لبيروسس»، وقبل هؤلاء ظهرت أسفار العبرانيين على أزمنة متفاوتة. ففي القرن التاسع قبل الميلاد على وجه التقريب، جمعت أسفار موسى الخمسة وأسفار يسوع وصموئيل، وفي القرن السادس قبل الميلاد ظهر سفر الملوك الأول وسفر الملوك الثاني، وهي التي تكوّن الأجزاء الأولى من العهد القديم. إلا أنّ كتابة السير عند المؤرخين العرب اتخذت أهمية كبرى، ذلك لأنّ تأثير العرب كان فعّالاً في هذا الاتجاه، فقد كانت كتابة السيرة النبوية أول عمل من أعمال التدوين التاريخي يقوم به العرب حين أملت الحاجة معرفة سيرة الرسول (صلى الله عليه وسلم) وحياته واستقصاء سنته، فأوجدت رجالاً مؤرخين جمعوا أخبارها. وكان ذلك بداية اشتغال العرب بالتأريخ، واحتلت السير والتراجم مكاناً مرموقاً في تاريخ العرب. ويُرجع «هيرنشو» ما تناوله تأريخ العهد الأخير في العصور الوسطى إلى تأثير الحضارة العربية، فقد تماست المسيحية والإسلام في الأرض المقدسة وما يجاورها وفي صقلية وجنوب إيطاليا والأندلس، حين خرج الفرنجة من ديارهم لقتال المسلمين، فإذا هم يأخذون عنهم العلم والمعرفة. ففي مجال السير عند العرب نجد المسعودي يعرض في كتابه « مروج الذهب» تاريخ غرب آسيا وشمال أفريقيا وشرق أوروبا. ونجد ابن خلكان الدمشقي يضيف معجماً في التراجم التاريخية. ثم نجد شيخ مؤرخي العرب عبد الرحمن بن خلدون ومقدمة تاريخه التي بلغت من السعة والإحاطة وصحة النظر وعمق الفلسفة ما جعلها مصداقاً لما قاله «فلنت» من أنه «واضع علم التاريخ». يقول «هيرنشو» إن أثر هذه الثقافة العربية انتقلت إلى أوروبا المسيحية عن طريق مدارس الأندلس وجنوب إيطاليا، فكانت من العوامل القوية في إنهاء العصور الوسطى وانبثاث فجر العصور الحديثة». والواقع أنّ فضل المؤرخين العرب على علم التاريخ يفوق ما لهم من فضل على العلوم الأخرى التي أضاءت مشعل الحضارة الأوروبية الحديثة، فقد أكمل العرب ما بدأه الإغريق والرومان من بناء الفكر التاريخي، وضربوا في شتى فنونه بسهم، وآخر فأرخوا للأمم والشعوب والفتوح والمغازي، ودوّنوا تراجم أبطالهم وأعلامهم كما دوّنوا لتاريخ الأقاليم والبلدان. كما كانوا أول من كتب في تاريخ التأريخ ووضحت في أذهانهم فكرة الزمان والمكان فصنفوا العصور وعنوا بتوقيت الواقعة التاريخية بالأيام والشهور والسنين وهو ما لم يعرفه مؤرخو اليونان والرومان. وأخذوا في الرواية التاريخية بالإسناد وهي سنة محمودة جروا عليها في رواية الحديث للمحافظة على النص وتحرّي الحقيقة. وجاء ابن خلدون فربط بين الفرد والمجتمع والواقعة والبيئة، كما وضع أسس النقد التاريخي وفلسفة التاريخ. وبلغت كتب السير والتراجم على يد العرب ما لم تبلغه على أيدي الإغريق والرومان فأرّخوا للمدن، كما أرّخوا للأعلام. ومن قبيل ذلك كتاب «ولاة مصر وقضاتها» للكندي المتوفى سنة 305 هجرية، و «تاريخ بغداد وأعلامها» للخطيب البغدادي المتوفى سنة 463 هجرية، و«تاريخ دمشق وأعلامها» لأبي العساكر من مؤرخي القرن السادس الهجري، و«معجم الأدباء» لياقوت الحموي، و«وفيات الأعيان» لابن خلكان من مؤرخي القرن السابع الهجري و«الدرر الكامنة» لشهاب الدين بن حجر العسقلاني، ويؤرخ هذا الأخير للقرن الثامن الهجري وهي سنة جرى عليها مؤرخو العرب بعد ابن خلكان في الترجمة لأعلام كل عصر على حدة. وتتصل تراجم أعلام العصور قرناً فقرناً بعد ذلك، فنرى «الضوء اللامع» للسخاوي، مترجِماً لأعلام القرن التاسع الهجري، و«الكواكب السائرة» للعزي، في تراجم رجال القرن العاشر الهجري، و«خلاصة الأثر» للمحبي، في تراجم رجال القرن الحادي عشر، و«سلك الدرر» للمرادي في تراجم رجال القرن الثاني عشر، وأخيراً «تراجم أعيان القرن الثالث عشر فأوائل الرابع عشر» لأحمد تيمور. إلا أنّ كتابة السير عند العرب لم تحفل بنظرية الرجل العظيم كما حفل بها مؤرخو اليونان والرومان، ذلك أنّ البطل في التاريخ الإسلامي لم يكن ظاهرة اجتماعية لروح العقيدة الدينية التي سادت المجتمع الذي يستمد كل فضائله من تعاليم الشريعة التي ساوت بين الناس إلا في طاعة الله (إنّ أكرمكم عند الله أتقاكم) [الحجرات: 13]. ثم إنّ الفوارق والمعجزات والعبقريات الفذة التي بقيت تسيطر على مشاعر مؤرخي الإغريق والرومان من تأثير الأساطير القديمة حملتهم على تمجيد البطولة والدور الذي يقوم به الرجل العظيم، ولم يكن لهذا التأثير نظير في الفكر الإسلامي، فقد حرّر الإسلام العقل من آثار الماضي وانبعث في ظله مجتمع جديد تحدده عقيدة جديدة خلت تماماً من تمجيد الفرد إلا بقدر ما يعمل في طاعة الله، فهذا عمر بن الخطاب رضي الله عنه يتوجه إلى المسلمين في أول خطاب له بعد بيعته بقوله « أيها الناس، ما أنا إلا رجل منكم، ولولا أني كرهت أن أردّ أمر خليفة الله ما تقلدت أمركم». وحين نتحرى الموقف التاريخي في السيرة أو في حياة البطل فيكشف لنا عن نواحي تفرّده وتميّزه، فإنّنا نبرز الإطار العام الذي تتحرك السير في حدوده، فكتابة السير والتراجم عند العرب هي قصة العمل العظيم الذي قام به صاحبها، والزمن في حساب مؤرخي السير هو الزمن الذي امتدت فيه أعمال صاحب السير، أما العمر فهو الإطار الذي يحبك منه المؤرخ سيرة يكتبها.