الآن.. الآن فقط، انتبهت أنك لست هنا .. الآن.. الآن فقط، استيقظت وأدركت أنك لن تكون معي بعد الآن .. الآن .. والآن فقط، اكتشفت أنني أتحمل إثم تعبي بعدك، لأني من حملك بيده إلى حيث لن تكون معه بعد تلك اللحظة .. الآن .. اشتعلت الحقيقة في واقعي، بأنك غادرت .. إلى هناك، حيث تبحث عن راحتك .. *** طافت بي أيام الطفولة، وتذكرتك .. حام في خاطري زمن الصبا، وتذكرتك .. وعصفت بي ذكريات ما تلا تلك الأيام وذلك الزمن، لأجدك الأجمل والأنصع والأنقى .. *** أتذكر جيدا حين كنت في وهج عنفوانك وأنت تتمرد على كل شيء، وأنا صبي يتطلع إلى بعض الأشياء .. كنت تريد أن تمارس الحياة كما تشاء، لكنك كنت عظيم الأدب والاحترام عندما يهتف صوت أخيك الكبير، لتهبط على كفه وتقبلها، طاعة اختيارية لا جبرية .. أتذكر، عندما كنت أتعلم منك بعض التمرد البريء على الرتابة، بمشوار في وقت غير مناسب على شاطئ البحر، وحين نعود من نزقنا تتحمل أنت عني العقاب .. أتذكر .. حين غادر والدي الحياة في لحظة صاعقة لأجدك الوحيد الذي غسلني من ألمي بدموعه الصادقة النقية، وأودعني رسالة من (16) صفحة مكتوبة بقطرات الدم النازف حزنا عليه، وحدبا عليّ .. *** أتذكر جيدا، ذلك الحب الجارف الذي كان يهطل عليك من سيدة الكل، التي كانت وحدها تعرف فلسفتك في الحياة .. تلك الشريفة العظيمة التي أودعتني سر حبها الخاص لك: لأنك شهم وكريم وصادق مع نفسك في كل حالاتك، ولأنك حتى لو ملأت الكون خطايا تعود إليها لتشفع لك، وكانت تفعل، لأنها تعرف أنك لم تكن تخطئ في أحد، بقدر ما كنت تتعب نفسك من أجل غيرك .. *** وأتذكر .. حين كنت تحرص على إرسال قصاصات من حروف مليئة بهمك الشفيف، وتحرص أن توصيني بوصايا نبيلة، وتقول لي: افعل ما لم أستطع أن أفعله، لتجعلني أعصف بنفسي كي ألقاك وأهبط على قدميك .. *** وأتذكر .. وأتذكر .. وأتذكر .. لأتذكر أنك الوحيد الذي جاء رغم تعبه في ليلة «نهى» لتكون جدها وأباها، حين غاب الآخرون .. كنت أبحث عن «أب» فوجدتك طاغي النبل، وشامخ الأبوة .. *** أعرف أنك كنت ستتهاوى لأنك كنت الأنبل .. أخذوا عليك أخطاءك الذاتية التي لا تؤذي غيرك، وتناسوا خطاياهم التي لا تغتفر .. رغم أنهم لو فكروا وسألوا لقيل لهم: «من كان منكم بلا خطيئة فليرمها بحجر» *** المدهش يا سيدي أنني حين رأيتك بعد برودة الثلج، أنك كنت كما أنت، ذات الملامح الشامخة التي لا تأبه بشيء، ولا بأحد.. والله، كنت على وشك أن أقول لك نكتة لنضحك سويا، لكني رأيتك على غير استعداد لتسمع شيئا، فقط، كنت على استعداد للذهاب إلى حيث ترتاح بجانب أحبتك، الذين يعرفونك جيدا أكثر مما يعرفك الطارئون على الحياة .. *** لن أطيل عليك يا سيدي .. لكنني أشعر بضرورة نقل بعض تفاصيل اللحظات الأخيرة .. حملتك على كفيّ الواهنتين لكي تغادر من بيتك .. بيت تأريخك الشاهق .. أول شهقة عظيمة في صدقها قالها ابنك «سامي» وهو يستقبل روحك الضخمة، ولا أدري كيف قال ما كان يعتمل في نفسي: «هذا بطل .. يسوى مليون رجل» .. قالها وهو يتكئ على نعشك، ويبكي .. يبكي بصدق .. وبعد سامي تهاوى كل من في البيت على جبينك لأنهم أحبوك بصدق، ويعرفون أنك كنت تحبهم بصدق ... ليتك رأيت «آمال» وهي تناجي الله، و «غادة» وهي تتوسل إليه، وأمهما وهي تبكي بدمع تحجر على وجنتيها، أو عمتك العظيمة التي لم يحل تعبها بعد عمر تجاوز المئة عام من أن تجثو على صدرك .. *** هل تعرف كم بكوا عليك ذلك اليوم ؟؟ هل تعرف كم شيعوك إلى جنة الخلد بإذن الله ؟؟ ليت الذين كانت قلامة ظفرك أكبر منهم يعرفون ... وليتني ... بجوارك مع الذين زلزلوا روحي بفقدهم .. لم يعد في هذه الحياة ما يبهج يا: عمي «الحسن» ..