(1) طرقتُ الباب. فتح لي. وضعت أمتعتي وألقيت عيني في عينيه. حينها شعرت أنه سيطهرني في بحر صفائه. قلت لنفسي: سأحكي له عن مواقيت التوجع. عن تلك الحقائب التي لم تمتلئ سوى بأسئلتي. وقلت له: انكسرت بلورتي السحرية، فأخرجني من ضلعك الأيمن، كي أسكن وريدك الأيسر. وفجأة تقلّب بي صوب الغضب، فعرفت أنه لم يفهم لغتي بعد. بينما كان منذ أيام يقنعني بأن الحياة تساويني، لم يتذكر أنني يوماً كنت جذوة وناراً. فتذكرت ما قاله الشيخ عندما فسر لي حلماً أفزعني، قال: «مركبتك هتهتز في البحر». البحر أعمق من قلبي الغارق في دمائه عندما أغمد فيه سكينة الشك، وبعثر حجراته في شتى الاتجاهات. البحر فاض بدموع الألم، لكنني سأودع فيه سري إذا شرب منه شربة واحدة. فإن لم يكن الطيبون للطيبات، فمن يكن لي زوجاً، وهو كان ملاكاً قبل أن يدهمني بالسؤال: - هل مسّتك الريح قبلي؟ ارتفع ضغط دمي وهبطت كل الفرحة وسكتّ... فلسعني بعقب سيجارته مستهيناً بأنيني، وكرر السؤال: - هل اشتهيت أنوثتك مع غيري في الخيال؟ ولم يسمع حشرجة احتضاري. بل ظل يردد السؤال حتى تحولت جثة هامدة. فأدرك أنه يجب أن ينتظر. حينها قلت: - منحتني الحياة... فمنحتك عشقي... ومنحتني موتي، فمن أين لك بالانتظار؟ وقلت: - سأبحث في القواميس عن الكلمات المبهمة. وقلت: - من يقتلني مرة... أقتله ألف مرة. (2) كان لا بد من أن أفعل أي شيء حتى لو كان خَلْعُ ضرسي منفذاً لخروج بعض من ألمي. كانت حقنة البنج الأولى تسري في الفك السفلي، فيثقل لساني، ولا أستطيع التوجع، وعلى رغم الثانية، فإنني أحسست بألم خروج الضرس من مكمنه. وعندما حضنتني صديقتي، كنت لا أقوى حتى على البكاء، لكنني شعرت بفقد جزء مني، لم أدرك قيمته إلا بعد محاولات المضغ الفاشلة. - هل كنت تعلمين أنه لا يملك الثقة؟ لم أكن أعرف سوى أنني ذات حظ عاثر ما إن أقف حتى أقع من جديد. شرائط كاسيت، أوراق مهلهلة، بطاقات أعياد ميلاد. أحجبة تلك التي في أدراجي ليس هناك مبرر للاحتفاظ بها. أيضاً ماذا أفعل بهذا الضرس المسوس؟ لم أهدأ إلا بعد أن ألقيتها في سلة المهملات. (3) قالت: عندما أجوب الشوارع على قدمي أستكين. قلت: فليكن رحيلك الأول. ثم بكيت معها أمام النهر ونحن نحتضن أوراقنا كتلميذتين صغيرتين. قلت: سأرسل للقمر تلغرافاً حتى يكتمل قبل الميعاد. ضحكت ضحكة قصيرة ومضت. قلت: ستشهد يا نيل عليّ... وأخرجت صرة حمراء مملوءة بضفائري، مُذ كنت صغيرة اعتدت أن أقصها، لكنه يحب ضفائري، فخذها إليك لتبدلني بأحسن منها، وحينما أكون أقرب إليه من أنفاسه سأتركه يمسها، وإن شعر بخطيئته فسأغفر له ما تقدم من شكه، وأمنحه أوسمة الحضور. ولما تعبت قلت: أجوب الشوارع على قدمي لعلي أستكين. - أمن جهة الحزن كنت أسير، أم كان قدري المنتظر؟ لا أدري لماذا بكيت عندما قالت الموظفة: تعالي غداً. ما سر تلك الثورة وذلك الجفاف الذي أمسك بحلقي؟ لماذا تمنيتُ في تلك اللحظة أن يكون لي وطن يُؤويني وقلب واحد أسكنه، وطفل أعطيه ما لم آخذه؟ - فلم يطلع الحلم من زمن التوجع سوى مرة واحدة... لكنني تنبأت أنه السراب، يومها كانت الجامعة الأميركية كراقصة قطاع خاص، وميدان التحرير كشارب جدي، وكنت أنسج بيتاً كبيت العنكبوت، فلم يستر جسدي الفقير... ثم ضاعت ملامحه من ذاكرتي بمجرد انتهاء رحلة الخسارة. سرت أجتر الهموم... أسيرة لأمارات التردد، لكنني أحب هذه الأرض التي مات النخيل من عليها، وتلك الشجرة التي تخلصت من أوراقها كتخلصي من أقنعة التجمل، وسأعاود استخراج الدموع من مآقيها، وسأفكر في مدينة جديدة تعشقني وأعشقها. مرت بائعة الترمس فذكرتني بالعجوز التي اصطدمتُ بها عندما خرجت مسرعة من مبنى القوى العاملة فشيعتني بنظراتها وهي تقول: «ربنا يحميكي». آه... لو كانت تركتني أشهق فوق صدرها وألعن ألف مرة تلك المسوخ التي تملأ حجرات المكاتب؟ كل ما كنت أريده مجرد توقيع، وتنتهي إجراءات الوظيفة. فهل كانت تلك اللحظة استفراخاً لهذا الانتظار الطويل؟ ليتني لم أطع طموحي... ليتني رضخت لضعفي!! حاولت التخلص من مخاوفي وانشغلت بما يحدث حولي، طفل وطفلة يتأرجحان في الهواء... عجوز يتصفح جريدة قديمة... شاب يمر بسرعة... وكأنني كنت أنتظره من دون ميعاد... التفت إلى كيانه المستقيم وهو يترنح في الهواء من بعيد ميل... جلس أمامي... خلع نظارته الشمسية وبهدوء شديد قال: - سأراودك عن صلحي.