تحمل الشعوب صورا نمطية حول غيرها من الشعوب والحضارات والثقافات. القليل من هذه الصور النمطية يتطابق مع الواقع، والكثير منها يتناقض مع المخزون الذهني الذي يضخم عبر الإعلام. كغيري من الناس جئت لليابان وفي ذهني الكثير من الصور النمطية حول هذا الشعب المتقدم صناعيا وتقنيا، والذي كنا نعتقد أنه ما زال أسير الماضي في الهوية والثقافة والحياة الاجتماعية. لم تتح لي الفرصة للعيش في اليابان لأكثر من 5 أيام شاركت فيها ضمن الوفد السعودي في الأسبوع العلمي الثقافي في أوساكا. وبرغم قصر المدة، إلا أنني رأيت وجوها لم أكن أعرفها عن الشعب الياباني، كما ذهلت بما يتميز به هذا الشعب من صرامة ودقة في التعامل مع الوقت والنظام والانضباط في كل جوانب الحياة. ولا عجب أن تفوقت اليابان، وأصبحت من أوائل الدول الصناعية في العالم. وبالعودة إلى تاريخ اليابان وجدت أنه مر بفترات تميزت بالانغلاق والعنصرية والعداء لكل غريب، وكان ذلك في فترة تسمى بعصر الإيدو في القرن التاسع عشر، حيث كانت ثقافة الساموراي هي المسيطرة، وهي معروفة بغلظة مقاتليها الذين لا يتوانون عن إشهار سيوفهم ضد كل غريب. غير أن حادثة زحف البوارج البريطانية تجاه الساحل الياباني عند مقاطعة (كاجوشيما)، وانتصارها على مقاتلي الساموراي بسيوفهم البدائية كانت حاسمة في قلب العقل الياباني، حيث أدرك اليابانيون أنهم خارج إحداثيات التاريخ والجغرافيا والتقنيات الحديثة. غير أن اليابانيين استفادوا من هذه الحادثة، وقرروا البحث والتقدم نحو سبر أسرار التقدم الذي جعل بريطانيا تتفوق عليهم آنذاك. كانت هذه الحادثة بداية لعصر «نهضة الميجي» في اليابان، وهي كناية عن اسم الإمبراطور الذي كان يحكم اليابان في تلك الفترة، والذي ارتبط عصره بالانفتاح والتحديث والتطوير، وقد سمي بالإمبراطور ميجي؛ بسبب الفترة التي حكمها، حيث كانت تسمى فترة ميجي، والتي تعني فترة (الحكومة المستنيرة)، وهي الفترة الأولى من تاريخ اليابان المعاصر. وبالرغم من أن عصر نهضة الميجي بدأ قبل 126 عاما فقط، فقد استطاعت اليابان خلالها ولوج مسيرة التحديث الصناعي والثقافي والاجتماعي. اليابان اليوم أبعد ما تكون عن الانغلاق، وأقرب ما تكون إلى المجتمعات الغربية في الأنظمة المدنية، والمذهل أنها استطاعت التفوق على الغرب صناعيا، في الوقت الذي اكتسبت من ثقافته الاجتماعية المنفتحة وتقدمه العلمي. المجتمع الياباني اليوم مجتمع منفتح تحكمه القوانين المدنية، ويحصل فيه الفرد على حقوقه الأساسية في الحياة دون تمييز، وتحصل فيه المرأة على حقها في العمل بعد أن كانت وحتى وقت قريب (1976) تعاني من انعدام المساواة كما ذكر المتحدث الياباني في ندوة تنمية الموارد البشرية. المجتمع الياباني يقدم اليوم حلولا للبيئة والطاقة المتجددة، ولا يهمه إن كان شبابه وشاباته يلبسون الجينز والتيشيرت أو يقصون شعورهم على الطريقة الغربية، فهم مهتمون أكثر بالأبحاث والتقدم العلمي الذي فيه مستقبل الأجيال، ولا عجب أن أعلن أمس خبر فوز الياباني شينيا ياماناكا على جائزة نوبل في الطب، مناصفة مع البريطاني جون غوردون عن أبحاثهما في الخلايا الجذعية. [email protected]