لطالما شكلت الطبيعة بتجلياتها المختلفة عنصر إلهام أساسي للشعراء والفنانين. ومن يتتبع أعمال الكتاب والمبدعين عبر العصور لابد وأن يتلمس الحضور الطاغي للطبيعة في لوحات الرسامين كما في الروايات والمنحوتات وقصائد الشعراء. ولعل الصورة النمطية للكتاب والشعراء على وجه التحديد، متصلة في أذهان الكثيرين بشرود الشاعر في البراري أو جلوسه عند ضفة نهر ناعس المياه أو فوق قمة جبل شاهق الارتفاع من أجل استدرار أبيات شعره الكامنة في الداخل ورفد مخيلته بشتى التشابيه والاستعارات. تتصور العامة تبعا لذلك أن الربيع والصيف هما الفصلان الأكثر ملاءمة للكتابة بوصفهما يتشحان بكرنفال باهر من الثمار والألوان والروائح المختلفة. لكن الحقيقة هي خلاف ذلك، حيث أن معظم الشعراء والروائيين المعروفين يعلنون في لقاءاتهم الإعلامية أو سيرهم الذاتية أن الخريف والشتاء هما فصلا للكتابة الأثيران. فالربيع على جماله وتفتحه الفردوسي لا يترك للقصيدة ما تفعله بل يبدو من ألوانه الموشاة ومروجه القزحية الفاتنة وكأنه تجسيد لحلم الكتابة نفسه. لكنه تجسيد بالغ الانكشاف والوضوح والوجود المرئي في حين أن الكتابة تقيم في الغامض والمستتر وغير المرئي. وكذلك هو الحال مع الصيف الذي يبعث حره الشديد على الكسل والبلادة فيما أن فضاءه المفتوح يحمل الذهن على التشتت وفقدان التركيز. صحيح أن بعض الشعراء الرومانسيين شحذوا أقلامهم ومخيلاتهم في الكنف المباشر للطبيعة، تماما كما فعل الرسامون والانطباعيون في القرن التاسع عشر، ولكن ذلك لم يدم طويلا حيث أعادت التعبيرية النور إلى الداخل الإنساني، وعادت غالبية الشعراء لتكتب من وراء الستائر وفي أحشاء المقصورات المغلقة للأماكن. فالفن كالحب يؤججه الاختلاء ويفسده الضوء العلني. ولأن الشتاء والخريف يحتجبان خلف هالة من الشحوب المسربل بغموضه فهما يوفران للإبداع كل ما يحتاجه من أدوات التخييل وافتضاض العتمة الملغزة. «كلما اتسعت الرؤيا ضاقت العبارة» دون أن يتغير شيء في الجوهر. فالبصر المفتوح يشتت البصيرة ويشلها، وما تحتاجه الكتابة هو شتاء المعنى لا صيف الأشكال.