الشائعة.. بحسب التعريف هي أقدم كذبة في التاريخ، ومثل كل شيء قابل للنشوء والارتقاء، فقد تطورت أساليبها ومناهجها من المشافهة والملاسنة والتداول السماعي إلى استخدام النقلة المعلوماتية في الترويج والنشر ونقل الشائعة في ثوان قليلة إلى كل أركان الدنيا الأربعة. المختصون يجمعون على أن وسائل التواصل الاجتماعي والتطور التقني أسهمت في سرعة انتشار الشائعة التي، كما قلنا، ليست وليدة اليوم، بل ملازمة للإنسان على وجه الأرض ولا تزال، وبرغم اتفاق العلماء والخبراء على خطورة الشائعة على مختلف الصعد إلا أنهم أجمعوا على مخاطرها وآثارها السالبة «ونخرها» عظام ونسيج المجتمع والإضرار بالمصالح وتحقيق أجندات لأصحابها أو تمرير غاياتهم من خلال «دس السم في العسل». الدكتور زيد محمد الرماني، عضو هيئة التدريس في جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية، في رأيه أن الشائعة موجودة منذ أن خلق الله الإنسان وقد جاء في القرآن الكريم وفي قصص الأنبياء عليهم السلام، أن نوحا عليه السلام أشيع أنه ضال «إنا لنراك في ضلال مبين»، وهذا موسى عليه السلام أشاعوا عنه أنه ساحر «إن هذا لساحر عظيم يريد أن يخرجكم من أرضكم بسحره فماذا تأمرون»، كما تعرضت أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها إلى شائعة الإفك المشهورة. ويعرف الدكتور الرماني الشائعة بأنها نشر أخبار مشكوك في صحتها تتعلق بكافة نواحي الحياة المختلفة، ولا بد أن تتناول موضوعا غامضا وذا أهمية لدى الأفراد المهيئين لتصديقها، المتفاعلين معها حتى تنتشر في المجتمع. فلتان أمني تبدأ الشائعة أو المعلومة المغلوطة، أو الخبر الكاذب على لسان شخص ما أو عن طريق وسيلة إعلامية بهدف إثارة البلبلة، وعدم الاستقرار في المجتمعات التي تعاني شعوبها من ظروف اجتماعية واقتصادية وسياسية سيئة، أو ضعف في وعيها السياسي والثقافي، أو تعاني من فلتان أمني، ويزيد الدكتور الرماني أن الشائعة أصلا نوع من الحروب النفسية، وتعتبر من أخطر الآفات التي تهدد المجتمعات وتماسكها، لذلك فهي تهم دول العالم كله بشكل عام ومجتمعنا العربي بشكل خاص نظرا لظروفه المختلفة. فالشائعات التي تنقل عن طريق الأفراد والصحف والمجلات والإذاعة والتلفزيون أو عبر الإنترنت ووسائل التواصل الإلكترونية قد تحمل آمالا طيبة للمستقبل، وقد تكون مدمرة تحمل الكراهية، ويستخدم مطلقوها أنسب الظروف لظهورها، والشائعة قد تنحصر مواضيعها في الحروب والكوارث وارتفاع الأسعار كما تمس أشخاصا وجماعات. قواعد البيانات الدكتور عبيد علي آل مظف، وكيل كلية الآداب والعلوم الإنسانية للتطوير في جامعة الملك عبدالعزيز، يقول إن الإشاعة تستخدم أحيانا سلاحا ذا حدين في العلاقات السياسية، خصوصا في ظل التوتر بين الدول، أو عند حالات الحروب، ويهدف مطلقوها في غالب الأحوال زعزعة الأمن الداخلي، التأثير على صناع القرار والحؤول دون تنفيذها، مبينا أن كافة المجتمعات لا تخلو من الإشاعة لتوفر عوامل تساهم في تكوينها مثل غياب الثقافة المجتمعية وقلة قواعد المعلومات والبيانات الصحيحة. سوا والبيض ويشير آل مظف إلى أن الشائعات تحدث شرخا بالغا في العلاقات الأسرية سواء بين الأزواج أو الإخوة والأقارب، محذرا في الوقت ذاته من خطورتها على كيان العلاقات الإنسانية وسلامتها، إذا لم يتم التعامل معها بالموضوعية والتقصي عن المعلومة الصحيحة، وقد وقعت أسر كثيرة ضحية للأكاذيب والمعلومات المغلوطة التي تدفع البعض إلى سوء التصرف وعدم العقلانية، وقد تنتهي مثل هذه الاضطرابات الأسرية بالطلاق والانفصال وتفكك الأسر وتشرد الأطفال أو حتى إلى القتل، ويحث آل مظف إلى إعمال مبدأ حسن النية واستقاء المعلومة من مصدرها والتغاضي عن الأكاذيب. ويضرب الدكتور آل مظف مثلا بأشهر الشائعات التي ارتبطت بحالات الاحتيال والنصب مثل مساهمات «سوا» والبيض، وقد قصد مطلقوها تحقيق أرباح ومكاسب كبيرة، وقد أسهم غياب الوعي الاقتصادي لدى البعض في انزلاقهم في درب الأكاذيب وسقوطهم ضحية للخداع والأكاذيب والشائعات فخسروا تبعا لذلك أموالا طائلة. توتر العلاقات يتناول الدكتور آل مظف خطورة الشائعة داخل بيئة العمل، والتي يقصد بها التأثير على القيادات التي تعمل في صناعة القرار داخل المنظومة، بهدف إلغاء أو إصدار القرارت، أو زيادة المخصصات المالية للموظفين، الأمر الذي يؤدي إلى اختلال الموازين والعلاقة بين العاملين وقيادة العمل ما ينعكس سلبا على الأداء ومستوى المنتج وزعزعة الاستقرار الوظيفي والمهني. وأرجع وكيل كلية الآداب والعلوم الإنسانية للتطوير أسباب انتشار الإشاعة إلى افتقاد مصادر المعلومات الموثقة ونقص قواعد البيانات المضادة لانتشار الشائعات، وطالب في ذات الوقت القطاعات الخدمية إنشاء مواقع إلكترونية خاصة تواكب التطور التقني الذي تشهده وسائل الاتصال وتساهم في إيصال المعلومات الصحيحة. حرب معنوية الداعية المعروف الشيخ ناصر الأحمد يرى أن الشائعات التي تستهدف الإنسان من أخطر الحروب المعنوية، والأوبئة النفسية، بل أشد الأسلحة تدميرا، وأعظمها وقعا وتأثيرا، وليس من المبالغة في شيء إذا عدت ظاهرة اجتماعية عالمية، لها خطورتها البالغة على المجتمعات، فكم أقلقت الإشاعة أبرياء، وحطمت العظماء، وتسببت في جرائم، ولخطورتها فإن كثيرا من دول العالم تسخر وحدات خاصة لرصد وتحليل ما يبث وينشر من الإشاعات، ليبنوا عليها توقعاتهم لبعض الأحداث. وليست من مبالغة القول إن الشائعة ربما تنشئ دولا وتسقط أخرى، مشيرا إلى أن المستقرئ للتاريخ الإنساني يجد أن الشائعات وجدت حيث وجد الإنسان، بل إنها عاشت وتكاثرت في أحضان كل الحضارات، ومنذ فجر التاريخ والشائعة تمثل مصدر قلقٍ في البناء الاجتماعي، والانتماء الحضاري لكل الشعوب والبيئات. تهويل وإثارة ويصف الأحمد العصر الحاضر بالعصر الذهبي لرواج الشائعات المغرضة، وما ذاك إلا لتطور التقنيات، وكثرة وسائل الاتصالات، ما يتطلب ضرورة التصدي، ومكافحتها، والتخطيط لاستئصال جرثومتها، حتى لا تقضي على تماسك المجتمع، وتلاحم أفراده، ويرى الأحمد أن على البيت والمسجد والأسرة والمدرسة ووسائل الإعلام دورا كبيرا في المحافظة على سلامة المجتمع من شرور الشائعة وأخطارها، بدءا بالوعي وتقوية الوازع الإيماني وتبيين الحقائق ونشرها، وعدم التساهل في نقل الكلام وبث الأنباء، لا سيما في أوقات الأزمات، وعدم التهويل والإثارة في التعليقات، والمبالغة في التحليلات، دون تزييف أو التواء، رفعا من الروح المعنوية، وبعدا عن الخور والضعف والانهزامية. المعلومة المضادة ويعتبر الخبير الأمني اللواء.م. يحيى سرور الزايدي الطفرة التقنية التي يعيشها العالم أسهمت بصورة مباشرة في تناقل الشائعة وانتشارها، مشيرا إلى أن غياب الثقافة الأمنية يؤدي إلى إحداث الفوضى من خلال المعلومات غير الصحيحة. وأشار اللواء الزايدي إلى أن الجهات الأمنية تتعامل مع أي معلومات أو بلاغات واردة إليها دون النظر إلى مستوى دقتها أو عدم صحتها، بل تؤخذ على محمل الجد وتمنحها جانبا كبيرا من الاهتمام والمسؤولية، ومن ثم البحث والتحري عنها للوصول إلى المعلومات الصحيحة، والتي تعرف بالمعلومات المضادة سواء بالتكذيب أو التفنيد أو التصحيح. يوضح اللواء الزايدي أن مروجي الشائعة يلجأون إليها لعدة أهداف، منها إحداث البلبلة أو التشويش على القضايا أو مجريات التحقيقات الأمنية، ودائما ما تنكشف تلك الأكاذيب أمام أجهزة الأمن، ويحث بضرورة تكاتف المجتمع أمام الشائعات المغرضة والتصدي لها من خلال إبلاغ الجهات المختصة بكل ما من شأنه الإضرار بأمن الوطن أو الوحدة الوطنية، إضافة إلى عدم تداول المعلومات إلا بعد التأكد من صحتها ومن مصادرها. الباحث محمد باجبار، تناول الشائعة من جانبها السياسي ويقول إنها تمثل خطرا على مستوى الدولة نفسها، أو على علاقاتها مع الدول الأخرى، ولا ينحصر خطر الشائعة وأثرها على وقت السلم فقط، بل يتعدى ذلك إلى وقت الحروب، فيكون لها دور كبير في تحطيم الروح المعنوية للمقاتلين والنيل منها وإضعافها، الأمر الذي يؤدي إلى الهزيمة أو ترك القتال وعدم الاستمرار فيه مما يكون له تأثير على الجبهة الداخلية للمجتمع وإدخال الشك في القدرات القتالية مما يكون له أثر في وقف الإمداد المادي والمعنوي للمقاتلين.