أوضح الأستاذ الدكتور صالح غرم الله زياد الغامدي أستاذ الأدب والنقد الحديث في جامعة الملك سعود أن الجامعات، كما يجب أن تكون، ليست بغرفها وجدرانها ومبانيها وإنما بالكوادر الفاعلة فيها، مبررا تنقله للتدريس من جامعة إلى أخرى، بأنه كان بحثا عن الجو الحيوي الذي تنفد طاقة المرء بدونه. وأكد زياد في حوار مع «عكاظ» خصصناه للجانب البحثي والأكاديمي، على ضرورة إجادة اللغة الإنجليزية في الدراسات العليا في الجامعات حتى في الأقسام النظرية، نافيا في الآن ذاته أن يكون هناك موضوع غير صالح للبحث ما دام هناك منهجية للمعالجة ورؤية تفتح الباب فيه للاكتشاف والتأويل وإثارة الأسئلة. وفيما يلي نص الحوار: • بداية هل لنا أن نعرف وأنت الاستاذ الجامعي رأيك في حجم ما يطبع من نتاج البحث الأكاديمي؟ حجم المطبوع من البحث الأكاديمي الذي يتم إنجازه في أطروحات الماجستير والدكتوراة، قليل قياسا على العدد الذي يتم إنجازه وإجازته. وهذا بخلاف البحوث الأكاديمية الأخرى، فهي لا تكتسب قيمتها إلا بالنشر المحكم. وفي جهة القيمة والأهمية لما ينشر من البحث الأكاديمي نجد تفاوتا كبيرا، فليس النشر في حد ذاته عامل اكتساب تلقائي للقيمة والأهمية، حتى لو كان نشرا محكما، فهناك مجالات محكمة تنشر كثيرا من الغثاء، وهناك من يدفع بسخاء من أجل نشر أطروحته أو كتابه وإن تضاءل محتواه العلمي وقيمته التأليفية. لكن الزبد دوما يذهب جفاء، والفضاء الأكاديمي يصير إلى نبذ الغث والسهل والعادي. • يتراءى لي أنك مقل نوعا ما في الإشراف على الرسائل العلمية، هل هذا موقف منك؟ أم أن هناك ظروفا تؤدي إلى ذلك؟ الإشراف على الرسائل الجامعية عمل شاق. والذين يعتقدون من الزملاء في الجامعات أنه أيسر من التدريس وإلقاء المحاضرات وإجراء الامتحانات واهمون. والذي يجعله بهذه الصفة هو تدني القيمة المنهجية لدى الدارسين، والاستسهال لمعنى أن تنجز أطروحة، وأحيانا غير قليلة غياب مهارات مبدئية في طريقة الكتابة والقراءة والفضول المعرفي وإطلاق الفرضيات التي يمكن أن تنتج حاجة إلى البحث. دعني أقول لك إنني أختار طلابي الذين أشرف عليهم ولا أقبل مطلقا بأن يسند إلي إشراف طالب لا أعرف مؤهلاته ومستواه، وإذا حدث أن تورطت فيما يخالف مبدئي هذا فإنني أعتذر من الطالب على الإشراف عليه. • ومن خلال انتقالك بين أكثر من جامعة هل تجد أن سقف الحرية الفكرية هو ذاته في جميع الجامعات السعودية؟ الجامعات رسميا منذ صدور النظام الموحد للجامعات في التسعينات الميلادية، تتشابه في أساسيات اللوائح، وليس هناك إلا اختلافات شكلية في اللوائح التنفيذية لكل جامعة. كنت في فرع جامعة الإمام في أبها، قبل أن يتحول إلى جامعة الملك خالد. والمسافة التي أحدثها التحول كانت كبيرة. سأذكر لك على سبيل المثال أنني حين تقدمت بعد أن عينت معيدا في فرع جامعة الإمام إلى الدراسات العيا في جامعة الملك سعود، وذلك في منتصف الثمانينات، لقيني رفض قاطع وكثير من اللوم والعتاب من مرجعي لأنه فهم من ذلك أني زهدت في الدراسة في جامعة الإمام. وكان ما يشبه الفزع في الجامعة حين تجرأت في الدكتوراة على طلب بعثة إلى الخارج. ولكن بعد تحول الفرع إلى جامعة أصبح مطلوبا من طلابنا المرشحين لوظائف معيدين أن يسافروا إلى الخارج للدراسة، وكان هناك مبدأ واضح يحث على تنويع مصادر ومرجعيات الدراسة والتخرج لأعضاء هيئة التدريس من أجل إثراء طاقة القسم وتوليد الاختلاف والحيوية فيه. الأقسام الجامعية ليست بغرفها وجدرانها ومبانيها إنها بالكوادر الفاعلة فيها، حين طلبت الانتقال إلى جامعة الملك سعود كان يراودني هذا المعنى، كنت أفهم أن طاقة المرء تنفد بلا جو حيوي، وقد أمضيت زمنا بعد انتقالي إلى جامعة الملك سعود مغتبطا بالأسماء البارزة في القسم: منصور الحازمي وعبدالله الغذامي وحمزة المزيني وسعود الرحيلي ومحمد الباتل الحربي... إلخ، لكن الزمن كالسيف، كان يلهث للمضي، فأخذ القسم يفقد تدريجيا البهاء الذي صنعته تلك الأسماء، والمشكلة هنا أنني لم استقل بالشعور بذلك بل أصبح يضاعفه تشاركي فيه مع عدد غير قليل من زملائي. • بما أنك ذكرت النظام الموحد للجامعات، هل أنت ممن يرى أن إعادة العمل بانتخاب عمداء الكليات ورؤساء الأقسام من شأنه أن يطور أداءها؟ أم ترى العكس؟ انتخاب العمداء ورؤساء الأقسام هو أحد متطلبات الاعتماد والجودة التي أخذت جامعاتنا في السنوات الأخيرة تسعى للحصول عليها من قبل مؤسسات دولية حرة. الانتخاب يعني إشراك الفاعلين في المؤسسة الجامعية في المسؤولية عنها وتحصين المناصب القيادية عن المحسوبية والقرارات الشخصية التي تبث لدى العاملين شعورا بالتهميش والتسلط. قد يذهب البعض إلى تفضيل التعيين لأنه يدرأ النزاع أو خشية من أن يغدو الانتخاب فضاء للاستقطاب، إلا أنني أعتقد أن الانتخاب هو الأفضل، وهو تدريجيا سيخفف من حالة الاحتقان والتنابذ. • تتفاوت الجامعات في نظام الدراسات العليا للعلوم الإنسانية، من اعتماد المقررات، إلى الاكتفاء بالرسالة، إلى المزج بين الاثنين، ما وجهة نظرك حيال هذه المسارات؟ خيار الرسالة هو الخيار المطروح في المسار الأكاديمي لدينا وفي جل إن لم يكن كل الجامعات العربية والعالمية المرموقة. هناك خيار المقررات لمنح الشهادة في جامعات كثيرة في تخصصات بعينها لغرض مهني وتطبيقي وليس أكاديمي، أي ليس لغرض تخريج الباحثين وكوادر العمل الجامعي. أما مرحلة الدكتوراة فلا خلاف في أن الرسالة فيها موضع اتفاق، وإن كانت الرسالة ذاتها موضع اختلاف بين الجامعات أو بين التخصصات من حيث الشكل والحجم. وما نجده في بريطانيا مثلا وفي جامعات عالمية مرموقة أخرى من دراسة الدكتوراة مباشرة دون دراسة مقررات هو تأكيد على جوهرية الرسالة. • وما تقويمك لعدد الطلبة الذين يتم قبولهم في الدراسات العليا كل عام، هل هو كما يرى البعض أكثر مما يجب؟ أم هو على العكس ويجب التوسع فيه؟ أرى أن هناك إقبالا كثيفا على الدراسات العليا لدينا في المملكة. ومن أجل المحافظة على جدية الدراسة وجدارتها، فلا بد من توافر كوادر ممتازة علميا وذات درجات عليا للاضطلاع بمهمة الدراسات العليا، ولا بد من مرافق وأدوات وأماكن تستوعب الأعداد بيسر. إذا كانت كثرة الأعداد المقبولة على حساب توافر مستوى عال من كفاءة الدراسة فهي وبال على الأقسام الجامعية. • هذا المستوى العالي من الكفاءة هل ترى أنه يتضمن إجادة لغة أجنبية شرطا للالتحاق بالدراسات العليا في الأقسام النظرية ؟ إجادة لغة أجنبية كما هي الإنجليزية عند معظم الأكاديميين هي ضرورة. وقد تختلف مستويات هذه الإجادة لكن أقلها هو القدرة على القراءة واستيعاب المصطلحات. عمليا ليست شرطا في القبول في بعض الأقسام النظرية، وشرط بمستوى معين في أقسام أخرى، بل إن أقساما علمية لدينا في الجامعة تخلت عن شرط إجادة الإنجليزية بسبب تضاؤل الإقبال عليها في الدراسات العليا. • نعود إلى موضوع الإشراف على الرسائل العلمية ونتساءل هل موضوع الرسالة يتم اختياره من قبلك أم من قبل الطالب؟ ليس من الصواب أن يختار الأستاذ لطالبه موضوعا للبحث، هكذا يصبح البحث أقرب إلى موضوعات الإنشاء والتعبير التقليدية، ويفتقد الباحث لحظة مهمة لافتراض الفروض وتوليد الأسئلة واتساع الاطلاع على الدراسات السابقة. من الطبيعي أن يكون للمشرف دور في توجيه الطالب إلى مجالات بعينها، وتلمس جوانب قوته واهتمامه التي تجعله أكثر اقتدارا في وجهة بعينها. • ولكن هل تقبل أن تشرف على رسالة موضوعها تقليدي يستند إلى الانطباعية أو منهج هجين مثلا لا إلى مدرسة نقدية حديثة؟ التقليدية ليست بموضوعها وإنما بمنهج البحث فيها والرؤية إليها. كل موضوع صالح للبحث ما دام هناك منهجية للمعالجة ورؤية تفتح الباب فيه للاكتشاف والتأويل وإثارة الأسئلة. ودعني أقل لك في مسألة الانطباعية أن كل باحث في العلوم الإنسانية لا يستطيع أن يتخلى عن ذاته كما يفعل الباحث في الكيمياء أو الرياضيات، الذات في العلوم الإنسانية، لا سيما في حقل الدراسات النقدية الأدبية هي بعض منهج الباحثين فيها، ولكنه بالطبع ليس كل المنهج، إن المنهج هنا ليس موضوعيا بإطلاق وليس ذاتيا بالمعنى الخالص للذاتية. • ومن خلال إشرافك ومناقشتك لرسائل علمية متعلقة بالأدب الحديث، هل ترى ميول تلك الدراسات تتجه للشعر أم للسرد؟ في العقد الأخير أصبح هناك إقبال على دراسات السرد، وذلك في موازاة تصاعد وتيرة إنتاج الرواية وتكاثر نشرها، وقد كان الشعر من قبل مهيمنا على مساحة الاهتمام في الدراسات الأدبية مثلما كان متسيدا للمشهد الإبداعي. الاهتمام بالسرد الآن هو اهتمام عربي وعالمي وليس سعوديا فقط، وقد برز ذلك في الجوائز والملتقيات وفي اهتمام الإعلام. ويبدو أننا لم نعد محصورين في الاهتمام بالرواية بل أصبحت دراسات السرد تأخذ منحى واسع المساحة في جهة السير الشعبية والمدونات التراثية وما تقدمه الميديا من برامج. • أخيرا وباعتبارك ناقدا أكاديميا، هل تعتبر أن الحصول على شهادة أكاديمية في النقد تؤهل صاحبها فعلا لأن يكون ناقدا؟ أم أن النقد المتفلت من أسر الأكاديمية هو الأكثر تحررا وانطلاقا؟ كلا، لا علاقة للشهادة بإبراز مستوى فائق في النقد والفكر. الدراسة من أجل الحصول على شهادة تسهم في صقل الموهبة وترقية الخبرة وتوسيعها، كم هم الحاصلون على دكتوراة في الأدب والنقد، وكم هم النقاد الحقيقيون من بينهم؟! بل إننا عرفنا أسماء بارزة نقديا من دون مؤهل دكتوراة: ما رأيك بالعقاد وأنور المعداوي ورجاء النقاش ومارون عبود وعزيز ضياء وعبدالله عبدالجبار وعبدالله بن إدريس؟ لكن الأكاديمية في وصف النقد هي معنى انتقاصي من وجهة ما، هي وجهة الأدباء المنشئين والصحافة، ففي هذه الوجهة المزدوجة يصبح النقد الأكاديمي نقدا بلا تقويم للنتاج الإبداعي، أي بلا مدح له أو قدح فيه، ولا يجد الأديب أو القارئ للصحافة قيمة للنص، فالأكاديمي لا يعنيه منهجيا أن يمدح أو يذم، ولا يسبغ على النصوص التي يتناولها قيمة ما، إنه فقط يصفها ويحللها ويكتشف دلالاتها، وهذا يجعله باردا لا يثير، ومن ثم لا يكتسب من الأهمية ما يحوزه النقاد غير الأكاديميين لدى الصحافة والمنشئين والقراء العاديين.