«يعلو الأذان صاعدا من وقت الصلاة، إلى جنازات متشابهة: توابيت مرفوعة على عجل، تدفن على عجل ... إذ لا وقت لإكمال الطقوس.. فإن قتلى آخرين قادمون .. مسرعين من غارات أخرى. قادمون فرادى و جماعات .. أو عائلة واحدة لا تترك وراءها أيتاما أو ثكالى». يشبه كثيرا هذا المقطع من شعر محمود درويش ما يجري في حمص اليوم إلا أنه قيل لمناسبة أخرى، وفي وصف جرائم العدو الإسرائيلي ليتبين بعدها أن ثمة ممن يزعمون أنهم من أبناء الوطن هم أكثر إجراما وظلما والشاهد اليوم هو حي بابا عمرو في مدينة حمص. لم تقتصر عملية النزوح على الأحياء فقط، إذ أن للأموات نصيبهم أيضا. حيث تداولت أوساط الأهالي و الناشطين موضوع توزيع مئات الجثث المكدسة في المشفى العسكري في حمص على بعض القرى القريبة من بابا عمرو. منها 66 جثة حضرنا دفنها في مقبرة إحدى القرى. كان بينها نساء وأطفال ورجال لم يتم التعرف إلا على 10 جثث، وذلك لقدم زمن الوفاة أحيانا، و للتشويه الذي لحق بها أحيانا أخرى لدرجة عدم تمييز ملامحها، فاكتفى المشيعون بمعرفة رقم الجثامين بدلا من أسماء أصاحبها. و يؤكد بعض سكان البساتين أن قوات الأمن تعمدت نبش قبور كثيرة بعد اقتحامها المنطقة، وانتشلت الجثث، وساقتها إلى مكان مجهول، في الوقت الذي تسربت فيه معلومات حول وجود 1150 جثة في المشفى العسكري في حمص حسب المنظمة العربية لحقوق الإنسان. تحدث بعض من التقيناهم من أبناء بابا عمرو عن ظروف مأساوية لدفن القتلى، حيث لا مراسم دفن ولا توابيت، «فأي مكان تقل فيه خطورة التعرض للقذائف يمكن أن يكون قبرا للشهيد» في حدائق البيوت كما يروي أسامة الناشط في تنسيقيات الثورة بحي بابا عمرو. نزوح إلى الموت تتشابه قصص رحلات النزوح من بابا عمرو هربا من جحيم دمار جيش النظام وتصفيات شبيحته. فالغالبية العظمى من النازحين تتحدث عن خروج اضطراري تحت القصف العشوائي، تحت جنح الظلام دون أن يقيهم الليل شر قذائف المدفعية، ورصاص القناصة الذي يستهدف مواكب الفارين من الموت. يتحدث أبو علاء (أحد الناشطين من أبناء بابا عمرو) عن طريقين للنزوح لا ثالث لهما في بابا عمرو. الأول يبدأ من (حارة المجدرة) إلى بساتين بابا عمرو ثم السلطانية وجوبر الملاصقين للحي من جهة الجنوب. أما الطريق الثاني فيمتد من جسر البساتين في الجهة الغربية إلى أن يلتقي مع الطريق الأول بعد نحو 500 متر، وتحديدا عند (جسر الطوفة) الواقع في مرمى القناصة من كل الجهات، ويحدد الرجل الخمسيني أماكن القناصة المتمركزين على برج الأمراء جانب ملعب الباسل شمالا، وهو ليس بعيدا عن قناصة آخرين تمترسوا على علو شاهق في أبراج السكن الشبابي ومساكن الادخار شرقا.. إضافة إلى قناصة اتخذوا من أبنية عالية في عيصون مرتكزا لهم في الغرب. إضافة إلى زملائهم المتربصين بأعلى المباني في السلطانية جنوبا . «سمح الجيش لأهالي الإنشاءات بالخروج من بيوتهم بعد أسبوع من القصف» يقول العجوز أبو عمار أحد أبناء الحي الذي أكد خروج الكثير من السكان باستثناء المطلوبين بحجة الخدمة الإلزامية أو التظاهر . ويستطرد العجوز السبعيني وصف صعوبة رحلة نزوحه مع عائلته رفقة الكثيرين مستقلين سيارات لم تستخدم أضواءها تحت جنح الظلام خوفا من القناصة. إلا أن هذا لا يعني أن الظلام يحمي من التجأ إليه، حيث تعددت الإصابات بعد اكتشاف القناصين لوجود السيارات على أثر أضواء (الستوب) الخلفي التي تعمل تلقائيا أثناء استخدام الفرامل. ويكشف الرجل عن وقوع حادث طال 25 سيارة محملة بعشرات العوائل من النازحين اصطدم بعضها ببعض في الظلام. الأمر الذي اضطر النازحين إلى ترك سياراتهم لينجوا بأنفسهم فهاموا على وجوههم لدرجة أن بعض الأطفال تاهوا عن أمهاتهم وآبائهم ولعل بينهم من فقد أثره إلى اليوم . يقول أحد الناشطين يكنى «أخو الشهداء» بداية القصف الذي شهده حي بابا عمرو كانت أحياء السلطانية وجوبر في حمص الملجأ الرئيس لمن استطاع الهرب من جحيم القذائف، ولكن سرعان ما اكتشف النازحون أنهم أخطأوا التقدير بعد أن لاحقتهم حمم الهاون والصواريخ إلى حيث ظنوا أنهم وجدوا لأنفسهم مأمنا فصاروا «كالمستجير من الرمضاء بالنار». ويتابع.. تكثفت حركة النزوح من بابا عمرو والسلطانية وجوبر في الأيام الأخيرة من القصف قبل اقتحام الجيش، فصارت أرتال النازحين أمام الحواجز العسكرية مشهدا مألوفا. حيث أجمع بعض من خاض هذه التجربة خصوصا النساء على أن عناصر الحاجز كانت تحتجز الرجال وتعتقلهم، وتترك النساء دون أزواجهن والأطفال دون آبائهم بعد طول عناء. يكشف البعض عن مقابل مادي كان يتم دفعه للمسؤول العسكري عن حاجز الجيش وقوى الأمن للسماح بمرور أي شخص طفلا كان أم امرأة أم عجوزا فيما أكد آخرون أن بعض الحواجز كان يكتفي بتدقيق البطاقات الشخصية للرجال بحثا عن مطلوبين، ويسمح بالمرور بعد انتظار للنساء والأطفال. قرى حمص تغص بضيوفها دون سابق تخطيط توزع معظم أهالي حي بابا عمر على القرى المجاورة التي حاولت ما استطاعت إيواءهم ،وتأمين المسكن و المأكل بجهد جماعي. لكن الأعداد الهائلة كما يقول ناشط إغاثي ضاعفت عدد سكان تلك القرى الصغيرة. ومثال ذلك أن قرية «آبل» التي لا يتجاوز عدد أسرها 400 عائلة استقبلت نحو 500 من أسر النازحين أغلبيتهم الساحقة من بابا عمرو. وذلك حسب قائمة أسماء أرباب العوائل المقدمة لمنظمتي الهلال والصليب الأحمر بغية الحصول على مساعدات غذائية إغاثية. أمام هذا الضغط السكاني اضطر أهالي القرى لاستعمال أبنية «هنغارات» المداجن والمحال التجارية والبيوت القائمة على الهيكل علها تساهم بتوسيع الطاقة الاستيعابية لإيواء النازحين بعد امتلاء البيوت . بساتين حمراء لكل أسرة نازحة قصة نزوح سواء هربا من جحيم القصف، أو همجية عناصر الجيش والمخابرات وشبيحة النظام عند دخولها إلى بابا عمرو، ولكن السبب الذي دفع بالحاجة فضة 64عاما إلى ترك بيتها كان مختلفا. تقول فضة: «ليتهم أخذوا كل ما أملك من مال و ذهب ولم يفعلوا فعلتهم بأولادي» وتضيف أم عبدو بلغة متثاقلة والدموع تملأ عينيها، وتشق طريقها في قسمات وجه حاول الصمود أمام حزن أم فقدت اثنين من أبنائها الثلاثة على أيدي «الأمن والشبيحة» في بساتين بابا عمرو، في واحدة من أبشع المجازر المروعة التي شهدتها المنطقة من حيث طريقة تسلل القتلة وأسلوب قتلهم. يتهدج صوت الأم الثكلى وهي تخبرنا بمأساة عائلتها قائلة: أخبرتنا زوجة ابني أن رجالا مسلحين يرتدون الزي المدني رأتهم من نافذة غرفتها قبل أن يكسروا باب المنزل في وضح النهار مصوبين فوهات بنادقهم نحو أربع نساء وحفيدي وهو طفل في الحادية عشرة من عمره. تضيف.. خرج أصغر أبنائي وهو في العشرين من العمر من غرفته ليعرف ماذا يحدث فاقتادوه إلى خارج المنزل ثم أرفقوه بشقيقه الثاني الذي يكبره بخمسة أعوام. وبعد ذلك تضيف أم عبدو سألونا عن السلاح فنفيت امتلاك أبنائي أيا من أنواعه، ثم أمرنا بالدخول إلى الغرفة وإقفال الباب ليبدأ إطلاق النار لمدة أربع ساعات متتالية من الساعة 11 حتى 3 بعد الظهر. اكتشفتا لاحقا أن المسلحين من كتائب النظام قاموا بإعدام ابني الشابين رميا بالرصاص. وعلمنا أن بيتنا ليس الوحيد الذي تعرض للهجوم فهناك بيوت لآل صبوح فقدوا ستة من شبابهم، إضافة إلى صهرهم، وكذلك كان لآل العكيدي والحيلبي نصيبهم من تلك المجزرة. إضافة إلى مجازر أخرى طالت عوائل في بساتين جوبر الملاصقة لبساتين بابا عمرو. وكان معظم ضحاياها من آل الزعبي رجالا و نساء و أطفالا . تقول زوجة أحد أبناء الحاجة فضة إن المشهد المروع لوالدة زوجها وعائلتها كان عندما خرجت الزوجة إلى قرب البيت لتجد الشابين مقيدين ومضرجين بدمائهما على الأرض متأثرين بطلقات رصاص في رأس العشريني ليغادر مخلفا بنتا وولدا أكبرهما في السابعة.. ونال جسد الثلاثيني (زوجها) أيضا نصيبه ليترك وراءه ثلاث بنات وولد. تضيف.. وعندما حضر الشقيق الأكبر تم دفن الشابين بجوار المنزل، وطلب ممن تبقى من أفراد العائلة الخروج فورا للرحيل طلبا للنجاة بالنفس غير آبه بالبيوت وأثاثها وبالأبقار التي علمنا لاحقا أنه تم إطلاق النار عليها وحرقها مع المنزل، والأهم من ذلك أن جثتي الشابين لم تسلما من الخطف بعد نبش قبريهما.