لم تنل مدينة من الألم والموت والتهجير مثلما نالت حمص «العدية» كما يحب أبناؤها أن يسموها. معظم أحيائها باتت أثرا بعد عين، فالنار اشتعلت في مناطقها مدينة وريفا من تلكلخ غربا على الحدود اللبنانية إلى مهين والقريتين وتدمر شرقا وصولا إلى الحدود العراقية. ومن القصير في الجنوب الغربي حتى تلبيسة والرستن شمالا. ولم يكن غريبا أن تحظى مدينة ابن الوليد بحصة الأسد من القمع في أعلى وأعتى مستوياته ما دفع الناشطين إلى تسميتها عاصمة الثورة متوجة بنحو نصف شهداء سورية حتى الآن . تجولنا في أحياء «أم الحجارة السود» كما درجت تسميتها فلم نجد في حمص إلا بقايا مدينة منكوبة عرفها كل من دخلها فيما سبق بظرافة أبنائها وصفائهم كما كانت منبعا للضحك والعلم ونقاء القلوب. وها هي اليوم تدفع ضريبة المطالبة بالحرية لتتحول على يد قوات النظام وشبيحته من مدينة كانت تصنع النكتة إلى حطام مدينة عصفت بها آلة حرب مدمرة فأجهزت على مقدراتها الاقتصادية ومسحت ملامحها. وإذا كان حي باب السباع فتح مصراعيه لاستقبال دماء شهداء أول مجزرة اقترفها النظام في حمص الثورة قبل يوم واحد من مجزرة الساعة الشهيرة في 18 أبريل «نيسان» 2011، فإن لحي بابا عمرو روايات وقصصا مع المجازر جعله مع حي الخالدية يتصدر أرقام الضحايا. دون إغفال للأحياء والأبواب الأخرى التي ما أوصدت قط أمام رياح التغيير بدءا بباب الدريب وليس انتهاء بباب تدمر وباب هود وباب التركمان وأحياء عشيرة والمريجة والعدوية وجورة الشياح والقصور والقرابيص والإنشاءات والغوطة والحمراء والميدان. بعض الناشطين وصفوا حمص بأنها قلب الثورة . وآخرون اعتبروا بابا عمرو قلب القلب، لكونه ذاق مرارة اقتحام قوات جيش وأمن النظام تسع مرات. آخرها وأعنفها على الإطلاق كان نهاية فبراير الماضي بعد قصف مدفعي وصاروخي استمر نحو 27 يوما وأعقب العديد من محاولات الاقتحام الفاشلة على الأرض بفعل المقاومة الشرسة من كتيبة الفاروق . 27 يوما تحت القصف أثارت الكثير من الأسئلة لمعرفة حقيقة ما جرى في حي بابا عمرو الذي دخلته «عكاظ» وسجلت حضورها كشاهد على حجم الدمار والمأساة الإنسانية فيه. وفي الوقت الذي تكثر فيه الأسئلة بعددها، فإن الأجوبة غالبا ما تكون مبهمة بنوعها غارقة بعتامة وقتامة المشهد تحت جنح من ظلم و ظلام الإعلام الذي حاول بعض الشبان الناشطين كسره رغم إمكانياتهم البسيطة، متسلحين بما تيسر من خبرة منحتهم إياها ساعات العمل الطويلة أثناء الأزمة. أمام هذا المشهد ربما كان من الأجدر أن نتناول صورة ما جرى في بابا عمرو بشكل وثائقي ممنهج بما يخدم الموضوعية، لكن الظروف غير الموضوعية وغير المنطقية للتستر على الأحداث تحول دون ذلك فكان الدخول إلى بابا عمرو أشبه بمحاولة انتحار ما دفعنا إلى سرقة الوقت باللحظة أثناء تجولنا في الحي، ومن ثم الاعتماد على روايات بعض النازحين بعيدا عن الحي خصوصا أن أحدا لم يعد يسكنه حيث طال الدمار كل أبنيته ومرافقه. في بابا عمرو تصح عبارة «من سمع ليس كمن رأى» وروايات أهلها تبقى أكثر مما ينتظر المرء أن يسمع عن مستوى من الجريمة المنظمة. بينت أم أحمد التي اختطف الشبيحة ولديها أمام عينيها وقتلوهما برصاصات في رأس الأول وجسد الثاني.. والشاب سامر الذي قتل معظم أفراد أسرته ودمرت الصواريخ وقذائف الهاون مسكنه الذي لم يمض فيه سوى أشهر لم تكن كافية لتسديد كامل الأقساط المترتبة ثمة آلاف القصص.. لتبقى لكل عائلة قصتها التي لم تنته بعد. شدة الدمار الذي طال معظم حارات الحي دفعت بالكثير ممن التقيناهم إلى تشبيه بابا عمرو بمدن زحفت إليها الشهرة على أنقاض ركام الخراب الذي لحق بها.. فهذا يشبهها بمدينة مصراتة الليبية، وذاك يسميها سبرينتشا العرب، وثالث يطلق عليها بابا عمرو غراد نسبة إلى ستالين غراد المدينة التي تعرضت لعدوان هائل من القوات الألمانية متحفظا على الدور الروسي في مسار الأحداث. يستحضر ياسر (50 عاما) مثالا محليا ليشبه بابا عمرو بحماة 1982. ويقول إن حجم الدمار يفوق آثار العدوان الإسرائيلي على مدينة القنيطرة السورية عام 1974 . وبدوره يقول أحد المتطوعين في مشفى طبي ميداني إن الصرخات التي أطلقتها نساء بابا عمرو وحمص وسورية فاقت حجما وألما صرخات بنت عمورية في العصر العباسي، لكن لا وجود ل «المعتصم» وكأن العالم بات أصم أبكم. ورغم ذلك لا يتردد الشاب الثلاثيني بأن يعطي لنفسه وسامعيه جرعة تفاؤل حين رأى أن هذا الحي الصغير الذي يسكنه نحو 70 ألفا دخل التاريخ كعمورية معتبرا أن «كل شيء سقط في باباعمرو إلا رأسه الذي ظل مرفوعا». بعض أبناء الحي حاولوا العودة لمنازلهم بعد دخول الجيش فاصطدموا بحقيقة أن بعض الحارات الأكثر تضررا مازالت مغلقة أمام العائدين من الأهالي منعا لرؤية الحجم الحقيقي للكارثة . «الحي مقطوع من كل شيء باستثناء القصف فهو مستمر» هكذا يصف أبو عمر (44 عاما) أوضاع الحي المحاصر، فالكهرباء مقطوعة بفعل القذائف التي مزقت الأسلاك وحطمت الأعمدة. كما أن المياه شحيحة، وإذا توفرت فلفترة قصيرة لا يستطيعون الاستفادة منها لأن معظم خزانات المياه مثقوبة بالرصاص والشظايا. ويكشف أبو عمر سر توفر الخدمة الوحيدة المتمثلة بشبكة الاتصالات الأرضية معللا ذلك بأنها ليست سوى مصيدة لرصد ومتابعة حركة الناشطين على الأرض من خلال الجواسيس ذلك أن الهواتف موضوعة تحت المراقبة. ويتحدث أبو عمر عن يومياته المرة خلال الأسبوع الأول من القصف مع أهله وأخوته في الحي, لافتا إلى أن الصواريخ وقذائف الهاون تمطر حارات الحي منذ ساعات الصباح الأولى بكثافة تتراوح بين 1000 1500 قذيفة يوميا غالبيتها أثناء النهار. حيث القصف المركز مع وجود طائرات استطلاع في سماء الحي منذ بداية العملية العسكرية الأخيرة. ويتحدث عن قذائف تستخدم للمرة الأولى في بابا عمرو منها ما ينفجر على ثلاث مراحل تفصل بينها ثوان قليلة، وأخرى أخذت شكل كرات معدنية بحجم كرة الطاولة تنفجر بعد سقوطها بدقائق. «عن أي حالة نفسية نتحدث ضمن ظروف كهذه ؟» يتساءل أبو عمر في رد على سؤال عن الأوضاع النفسية التي يعيشونها، معتبرا أن كل ساعة تمضي تحت القصف كما لو أنها عام، وهذا ما وضع الطعام والنوم على قلتهما في آخر الأولويات على سلم أساسيات الحياة. ويضيف أن ندرة الخبز والخضار دفعت الأهالي للاعتماد على «مؤنة» من البرغل و الرز. خاصة بعد اليوم الرابع حيث كان بعض المتبرعين يوصلون أحيانا الخبز مع بداية الحصار مغامرا بحياته، وقد شهد الحي استشهاد بعض الناشطين في هذا المجال لينالوا لقب «شهيد الخبز» . المشاهد والكلمات نفسها تتكرر على لسان الطفل عمار في وصف الحالة المأساوية، مستذكرا مشاهد تبادل ما تيسر من الطعام بين الجيران من النوافذ فقط لأن رصاصة القناص أو شظية قذيفة بانتظار من يتخطى حدود البيت خارجا. عمار ابن الشهيد الذي سقط برفقة عشرة آخرين في بابا عمرو برصاص الشبيحة يوم الجمعة 18 رمضان الماضي لم يتوان حين وجد من يسمع شكواه عن كشف آثار إصابة تعرض لها أثناء الاعتداء نفسه برصاصة اخترقت ساعده النحيل. لكن في ظل هذا الوضع الصعب كيف خرجتم من بابا عمرو ؟ يجيب ابن ال 12ربيعا قائلا:إن النزوح تم ليلا، تسلل وأمه وأخته وأخوه الصغير إلى بيت جده في الإنشاءات حين هدأ القصف، ثم استقلوا سيارة أجرة لم تجرؤ على تشغيل الضوء خوفا من القناصة لينتقلوا إلى جوبر حيث استوقفهم حاجز عسكري، وسمح لهم بالمرور بضغط من بكاء الأطفال . تلك حكاية من حكايات النزوح التي تعددت وتنوعت بكم النازحين ونوع رحلات القلق التي غالبا ما تكون مغلفة بالسرية وسواد الليل.