أثارت اعتداءات الجيش السوري النظامي على الأراضي التركية علامات استفهام حول موقف القيادة التركية من الأزمة السورية، خصوصا أن أنقرة باتت الحضن الأول لأقطاب المعارضة السورية، وكذلك تصريحات بعض المسؤولين حول إمكانية تدخل الناتو للحفاظ على الحدود، ومع تفاقم الأزمة السورية يتساءل البعض عن الموقف التركي أكثر دول الجوار تضررا بما يجري على الساحة السورية سواء من الناحية الإنسانية أو العسكرية؟ مع تحول الأزمة السورية إلى شأن إقليمي ودولي بامتياز، وجدت تركيا نفسها في خضم الصراعات وظنت أنها قادرة على تجاوزها. فمنذ وصول حزب العدالة إلى السلطة، اعتمدت حكومة أنقرة سياسة «تصفير المشاكل» مع الجيران. ويقوم جوهر هذه السياسة على أساس أن تعظيم مكاسب التعاون الاقتصادي بالدرجة الأولى مع الجوار الإقليمي سوف يؤدي إلى تقليص أهمية النزاعات التي تدور بمجملها حول قضايا جيو سياسية. وبالفعل، مع دخول العام 2011 بدا أن هذه السياسة تحقق نجاحات كبيرة،. كما سمحت هذه السياسة لتركيا بتأمين احتياجاتها من الطاقة (نفط وغاز) عبر عقود طويلة الأجل مع إيران. هذا الأمر حرر تركيا جزئيا من إمدادات الطاقة الروسية التي حاولت استخدامها بشكل متزايد خلال الآونة الأخيرة كوسيلة ضغط سياسية على الأتراك. كما سمحت هذه السياسة لأنقرة بتعظيم نفوذها السياسي إلى درجة تحولت فيها إلى وسيط مقبول للمساهمة بحل الملف النووي الإيراني، ومرة أخرى كانت موسكو المتضرر الأكبر من الدينامية التركية التي أزاحتها عن موقعها كوسيط وحيد في الملف النووي الإيراني. لكن أنقرة تفاجأت كما غيرها بهبوب رياح التغيير في العالم العربي وبدت شديدة الارتباك عندما وصلت هذه الرياح إلى ليبيا تحديدا، ففي تونس ومصر لم يكن للأتراك مصالح كبيرة تضطرهم إلى اتخاذ مواقف واضحة من الثورات التي أطاحت نظاميهما، لكن الأمر اختلف جذريا في ليبيا التي لم يبد أن الأتراك متحمسون للتغيير فيها خوفا على مصالحهم الاقتصادية. لكن ومع وضوح مصير النظام الليبي، قرر الأتراك السير باتجاه الريح. ورغم أهمية ليبيا للأتراك، إلا أن سوريا شكلت التحدي الأكبر لسياستهم في عموم الشرق الأوسط. فحكومة أردوغان التي تعلمت من الدرس الليبي سارعت إلى إعلان تأييدها للتغيير في دمشق، إلا أنها بدت شديدة الحذر في موقفها الجديد، أخذا في الاعتبار الاصطفافات الإقليمية والدولية الناشئة عن الأزمة السورية. في هذه الحالة وجدت تركيا نفسها في مواجهة معادلات القوة التي حاولت أن تنساها في خضم سياسة «تصفير مشاكل» التي حاولت اتباعها مع الجيران. زيارة أردوغان الأخيرة إلى إيران كشفت بوضوح عن مدى التوتر الذي يشوب العلاقات بين البلدين، فردا على سوء استقبال طهران لأردوغان قررت أنقرة الانضمام إلى العقوبات التي فرضها الغرب على صادرات إيران من النفط عبر تخفيض وارداتها منها بنسبة 20 % بعد أن كانت وافقت على نشر الدرع الصاروخي الأمريكي على أراضيها في خطوة اعتبرتها طهران موجهة إليها. أما فيما يتعلق بالعلاقات التركية الروسية فهي أعقد من أن يتم اختصارها بالنفط أو اغتباط موسكو بعودة التوتر إلى علاقات طهرانبأنقرة بعد فترة من الدفء بلغت أوجها بتصويت تركيا ضد قرار مجلس الأمن 1929 الذي فرض مزيدا من العقوبات على طهران بسبب برنامجها النووي. في الموضوع السوري تحديدا يبدو أن مخاوف موسكو من وصول نظام حليف لأنقرة في دمشق يشكل العامل الحاسم في التشدد الذي أبدته روسيا في مجلس الأمن دفاعا عن النظام السوري. فموسكو التي تنظر إلى تركيا كخصم تاريخي تريد الحيلولة دون أن تجني هذه الأخيرة ثمار التغييرات التي تجري في عموم الشرق الأوسط وذلك على حساب موسكو ومصالحها وهو ما يبدو حاصلا الآن. مواقف طهرانوموسكو هي ما حالت حتى الآن دون اتخاذ تركيا خطوات فعلية فيما يرتبط بالأزمة السورية،. لكن الموقف التركي الذي يبدو شديد الحرج من كثرة التصريحات وقلة التحركات سوف يصل قريبا إلى مرحلة يضطر فيها إلى فعل شيء ما وإلا أضاع كل المكاسب التي أمكن تحقيقها خلال فترة الربيع الذي يوشك إن يتحول إلى صيف قائظ.